مراجعات أمريكية
في الشهر الماضي صدرت مجلة نيوزويك الأمريكية وعلي غلافها صورة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش والعنوان الرئيسي للغلاف يقول: هل تكرهه أوروبا حقيقة؟, وقالت في الداخل: إن موجة جديدة من العداء تنتشر في أوروبا لأمريكا, مع تركيز خاص علي جورج بوش الذي أصبح يمثل الوجه المظلم لأمريكا عند الأوروبيين, فهو من تكساس, ويتحدث بفجاجة, ويرتدي قبعات الكاوبوي, وهو كما يبدو عدوان, وذو عقلية بسيطة.. إلي آخر الأوصاف التي ذكرتها المجلة الأمريكية.
وبصرف النظر عن موضوع نيوزويك فإن الصحافة الأمريكية مليئة بالتحليلات والدراسات التي تنبه إلي خطورة السياسات التي تتبعها الإدارة الأمريكية علي أمريكا ومستقبلها. وعلي سبيل المثال كتب المحلل المعروف جيم هوجلاند مقالا في واشنطن بوست تحت عنوان سياسات واشنطن مشوشة انتقد فيه تضارب مواقف وتصريحات بوش بحيث أصبح يقيد آراءه وسياساته كل يوم تقريبا تجاه الاجتياح العسكري الإسرائيلي لأراضي الضفة الغربية, أو تجاه الأزمة بين الهند وباكستان, أو تجاه توجيه ضربة عسكرية للعراق أو الاكتفاء بتجنيد عناصر من المعارضة لتنفيذ مخطط المخابرات الأمريكية لإسقاط النظام العراقي من الداخل دون حاجة إلي استفزاز مشاعر الشعوب العربية بشن حرب جديدة في المنطقة بالقوات الأمريكية, في الوقت الذي يقود فيه شارون حربا شرسة ضد الشعب الفلسطيني. ويشير المقال إلي أن التضارب في السياسات الأمريكية وصل إلي حد محاولة الاستقرار في دول صديقة لأمريكا وتتمتع بالاستقرار منذ سنوات لمجرد ممارسة الضغوط عليها.
وقال هوجلاند: إن التخبط أدي إلي فشل المخابرات الأمريكية في استخدام الأكراد في شمال العراق لتنفيذ خطتها, فقد قامت المخابرات الأمريكية بنقل القادة الأكراد وعلي رأسهم مسعود برزاني وجلال طلباني إلي موقع آمن في ولاية فرجينيا, لإقناعهم بالمساعدة في مخطط اجتياح مجموعتين جديدتين للعراق من الشمال, ولكن الأكراد طلبوا ضمانات أمريكية جادة لحمايتهم من عواقب هذه الخطوة الاستفزازية, فلم تقدم لهم الإدارة الأمريكية أية ضمانات, وعادوا من حيث أتوا وهم لا يعرفون بالضبط ماذا تريد منهم أمريكا, وما هي الخطة الأمريكية بوضوح, وما دورهم بالتفصيل, وما الثمن الذي سيحصلون عليه بالتحديد, وكانت النتيجة أن صدام حسين بادر بتنفيذ خطة وقائية بدأها بإرسال وفد سياسي للضغط علي القادة الأكراد وتهديدهم, واتبع ذلك بتحريك قوات مشاه ودبابات إلي المواقع التي يمكن أن تكون مصدر تهديد.
وعلق هوجلاند علي تصرفات الإدارة الأمريكية في مواقع عديدة من العالم فقال: أن التصريحات الحمقاء الملتوية تجاه المشكلات أفقدت بوش وأعوانه المصداقية, فهم يوما يصفون شارون بأنه رجل سلام, وفي اليوم التالي يصورونه علي أنه خصم عنيد تسبب في إحباط مبادرة سياسية مهمة, ويعلن عن دعم أمريكا للاجتماع الرباعي وفي اليوم التالي يعلن عن مؤتمر للسلام, وهذا التشوش في التصريحات والمواقف يعكس بالتأكيد التشوش داخل الإدارة الأمريكية كما يقول المحلل الأمريكي جيم هوجلاند.
ويصل التضارب إلي الداخل أيضا, فالإدارة التي تعلن أنها تدعم وتدافع عن القيم الأمريكية: الديمقراطية وحقوق الإنسان, تعتقل الآن المئات وتحقق المخابرات الأمريكية معهم في سرية ودون إعلان الاتهامات الموجهة اليهم أو إعطائهم فرصة للاستعانة بالمحاميين كما يقضي القانون الأمريكي, وتبرر الإدارة الأمريكية ذلك بأنها الآن في وقت الحرب, وبهذه الحجة تتصرف الإدارة الأمريكية وحدها دون الرجوع إلي الكونجرس في إرسال قوات عسكرية وبعثات تدريب في أماكن عديدة بدعوي محاربة الإرهاب المنتشر في جميع أنحاء العالم تقريبا وفقا للتصريحات الأمريكية.
وقد سبق عقد ندوة ضمت قادة الولايات المتحدة وزعماء دوليين نظمتها مؤسسة نيوز كوربوريشن كان موضوعها ماذا يريد العالم من أمريكا؟, وعلق الرئيس السوفيتي الأسبق ميخائيل جوربا تشوف عليها فقال إن طرح السؤال من أمريكا شيء جديد لأن معظم الأمريكيين لا يعيرون اهتماما للاستماع إلي الغير أصلا, وفي نظرهم أن علي العالم أن يستمع لأمريكا, وأن مصلحة أمريكا أولا ثم ثانيا وأخيرا, وما يفكر فيه الآخرون فهو غير وارد في حساباتهم. وقال جوربا تشوف ايضا إن الولايات المتحدة بلا ريب هي القوة العظمي الوحيدة المتبقية وستظل تحتفظ بقيادة العالم لفترة مقبلة ولكن الطريقة التي تستخدم فيها الولايات المتحدة موقعها القيادي ليست إلا نوعا من الاحتكار السياسي والاقتصادي والثقافي, وأمريكا تقوم الآن بدور شرطي العالم وتبدو وكأنها تريد أن تسيطر علي مصائر الشعوب أو تتلاعب بها. وتساءل جوربا تشوف: هل يساند الشعب الأمريكي مثل هذا الفهم للدور القيادي الأمريكي؟
وفي هذه الندوة قال نيوت جينجر تيش رئيس مجلس النواب الأمريكي السابق:
لقد ولي الزمان الذي كنا فيه نشق الطريق مثل كاسحة الجليد ليسير الآخرون في أعقابنا صاغرين, وطرحت مادلين أولبرايت في الندوة سؤالا:
هل ستسعي الولايات المتحدة الي الموازنة بين مصالحها الخاصة ومصالح الاخرين, ستظل في استعراض قوتها متجاهلة الدول الأخري والأمم المتحدة ومجلس الأمن..؟
وأجابت: في الغالب علي أمريكا أن تتبع مبدأ موازنة مصالحها مع مصالح الاخرين, ثم قالت عبارة ختامية أكدت فيها: ولكننا سنتصرف وحدنا إذا شعرنا بضرورة ذلك.
وتردد في هذه الندوة المبدأ الذي أعلنه الرئيس الأسبق جون كيندي: إن عالم المستقبل لا يمكن أن يكون قائما علي السلام الأمريكي, فإما أن يكون سلاما للجميع, أو لا يكون هناك سلام علي الإطلاق.
وأعتقد أن هذه المراجعات والانتقادات التي تتزايد داخل أمريكا لإدارة الرئيس بوش.. والخلافات التي تتسع بين مواقف أوروبا والموقف الأمريكي في التعامل مع القضايا الساخنة في العالم ومنها تأييد إدارة بوش الأعمي لحرب شارون علي الفلسطينيين بدعوي محاربة الإرهاب.. بدون شك سيكون لها تأثيرها علي السياسة الأمريكية التي يقودها الآن عناد الرئيس بوش ورؤيته الأحادية الجانبية لأمور.. وإلي أن يحدث ذلك علينا أن ننتظر!