شاهد من أهلها

حين رفضت إسرائيل قرار مجلس الأمن بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق عما ارتكبه الجيش الإسرائيلي من جرائم في مخيم جنين‏,‏ لم يكن أحد في العالم العربي يتصور أن بإمكان إسرائيل أن تتحدي الشرعية الدولية في الوقت الذي يتحمل فيه الشعب العراقي هوان العقوبات الاقتصادية‏12‏ سنة بحجة عدم تنفيذ حكومته لقرارات الشرعية الدولية‏!‏

ومع ذلك فقد استطاعت إسرائيل وضع سابقة خطيرة في تاريخ الأمم المتحدة‏,‏باثبات أن إرادتها وليست إرادة الشرعية الدولية هي الأقوي‏.‏ ولم يستطع شارون أن يخفي زهوه بهذا الانتصار فوقف أمام مؤتمر المنظمة اليهودية الأمريكية لمناهضة التشهير الذي عقد أخيرا في واشنطن واعترف بأن وقوف الإدارة الأمريكية إلي جانب إسرائيل في تحديها لمجلس الأمن هو الذي أنقذها في هذا الوقت الصعب من الرضوخ للإرادة الدولية وافتضاح جرائمها‏.‏


وعلي الجانب الآخر فإن أحد أعضاء لجنة تقصي الحقائق التي شكلها الأمين العام للأمم المتحدة تنفيذا لقرار مجلس الأمن‏,‏ كشف منذ أيام جانبا مما جري وراء الكواليس‏,‏ وهو الجنرال الأمريكي المتقاعد ويليام ناشي مدير مركز العمليات الوقائية بمجلس العلاقات الخارجية‏,‏ فقد كتب مقالا نشره في صحيفة هيرالد تريبيون الأمريكية قال فيه إن أعضاء اللجنة برئاسة مارتي أهيتساري رئيس فنلندا السابق بدأوا عملهم فعلا فور تكليف الأمين العام للأمم المتحدة لهم فسافروا إلي جنيف وقاموا بمراجعة الروايات الصادرة من كل الأطراف عن وقائع الحرب كما تابعت تقارير المنظمات الدولية التي عايش ممثلوها الأحداث‏,‏ وظهر من ذلك أن قيادة الجيش الإسرائيلي تشعر بالقلق من اكتشاف الأخطاء الأخلاقية والقانونية والعسكرية التي ارتكبتها‏.‏ كما توصل أعضاء اللجنة إلي أنه توجد دلائل كثيرة علي أن الوحدات التي أرسلت إلي المعركة تم حشدها بسرعة‏,‏ ولم يكن أمامها سوي وقت قليل للتخطيط والاستعداد والتدريب علي الهجوم‏,‏ كما كانت معلومات الاستخبارات عن المخيم غير كافية‏,‏ وكانت الإجراءات في مجملها غير كافية للتعامل مع‏13‏ ألف إنسان يعيشون في المخيم معظمهم مدنيون وليسوا مقاتلين‏,‏ كما أن القوات الإسرائيلية استخفت بقوة المقاومة التي ستواجهها‏,‏ وهذه كلها أخطاء عسكرية لا تريد إسرائيل كشفها‏.‏


وإذا كانت إسرائيل تلقي بالمسئولية علي الفلسطينيين لأنهم وضعوا قوات ومعدات عسكرية في مناطق مكتظة بالسكان‏,‏ وزرعوا الألغام‏,‏ ونفذوا قبل ذلك هجمات إرهابية علي أهداف مدنية داخل إسرائيل‏,‏ فإن الفلسطينيين لديهم اتهامات للإسرائيليين بأنهم بدأوا القتال دون أن يوجهوا تحذيرا إلي المدنيين من سكان المخيم‏,‏ ولم يعطوهم أي فرصة للابتعاد عن مواقع الاشتباك‏,‏ فضلا عن الاستخدام المفرط للقوة من جانب القوات الإسرائيلية‏,‏ واستخدامهم المدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية‏,‏ وإعاقة محاولات أهل المخيم للبحث عن الموتي وإنقاذ المصابين‏,‏ ورفض السماح لسيارات الإسعاف والمساعدات الطبية بدخول المخيم‏,‏ ويضاف إلي ذلك الهجمات المتعمدة لتدمير البيوت والمنشآت المدنية‏.‏

هذه هي شهادة العضو العسكري الأمريكي في لجنة تقصي الحقائق بعد أن درس ملف الجرائم الإسرائيلية من مصادر غير عربية‏,‏ ويمكن القول بعد هذه الشهادة الأمريكية من خبير عسكري علي مستوي عال ينطبق عليها المثل‏:‏ وشهد شاهد من أهلها‏!‏

فإذا كان هذا الجنرال الأمريكي لديه هذا الشعور بضرورة مواصلة الجهود لكشف ما تريد إسرائيل إخفاءه وإسدال الستار عليه‏,‏ أليس الأولي أن تقوم بذلك الجامعة العربية والدول العربية‏,‏ بالاستمرار في الضغط والإلحاح‏,‏ والمطالبة بفتح ملف جرائم الحرب‏,‏ والتنسيق مع المنظمات الدولية لحقوق الإنسان‏,‏ والمنظمات غير الحكومية في الولايات المتحدة نفسها‏,‏ وفي الدول الأوروبية‏,‏ وفي الأمم المتحدة ومنظماتها‏,‏ وفي كل المناسبات والمؤتمرات والمحافل الدولية‏,‏ لكي تظل القضية حية مهما يطل بها الزمن‏,‏ وهناك أمثلة عديدة لجرائم من هذا النوع تحقق النجاح في إعادة فتح ملفاتها بعد سنوات من إغلاق هذه الملفات‏,‏ بفضل إلحاح واستمرار أصحابها في الضغط وتعبئة الرأي العام واكتساب تأييد المثقفين والشخصيات العالمية البارزة‏,‏ مثل اللجنة التي شكلها الفيلسوف البريطاني الكبير برتراند راسل وكشفت جرائم الحرب الإسرائيلية في لبنان‏,‏ ومثل جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الأمريكي في فيتنام وأعيد التحقيق فيها بعد سنوات‏,‏ وكذلك لجنة التحقيق التي اضطرت الحكومة الإسرائيلية لتشكيلها للتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية في صبرا وشاتيلا ووجهت الاتهام إلي شارون وكان وقتها وزيرا للدفاع وهو الذي أمر بتنفيذ هذه المذبحة‏..‏ وخرج من الحكومة مكللا بالعار‏.‏

وإسرائيل مازالت حتي الآن ترفض إغلاق ملف الجرائم التي ارتكبها النازي ضد اليهود برغم مرور أكثر من نصف قرن عليها‏..‏ فكيف يقبل العرب السكوت علي الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بالأمس فقط والجرائم التي مازالت ترتكبها حتي اليوم‏..‏؟

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف