ثقافة العنف .. و عنف المثقفين

استقيظ المركز القومي للبحوث الاجتماعية بعد سبات‏,‏ وبدأ يتحرك للقيام بمسئوليته التي انشئ من أجلها‏,‏ وهي دراسة وتحليل الظواهر الاجتماعية المستجدة‏,‏ والبحث عن أسبابها والعوامل الخارجية والداخلية الؤثرة فيها‏,‏ واقتراح الحلول للمشكلات التي تعوق تماسك‏,‏ وانطلاق وتنمية المجتمع المصري‏.‏

والفضل في هذه النهضة الحديثة يرجع إلي القيادة الشابة التي تولت أخيرا هذا المركز‏,‏ والتي تتميز بالحيوية والإخلاص والتجربة في الوقت نفسه‏,‏ ومنذ تولت الدكتورة نجوي الفوال رئاسة المركز حدث تحول جوهري في أسلوب عمله يتخلي عن الابحاث النظرية والشكلية التي كان يجربها‏,‏ واقترب بأبحاثه من مشكلات الحياة الاجتماعية الحاضرة والملحة‏..‏ وقد بدأ المركز أمس مؤتمرا يستمر أربعة أيام ويضم خبراء وعلماء الاجتماع وعلم النفس والقانون لدراسة الابعاد الاجتماعية والجنائية للعنف في المجتمع المصري‏.‏


ومن أهم محاور هذا المؤتمر عنف الحوار بين المثقفين وهو موضوع يتعرض بجرأة لظاهرة أصبحت مصدر قلق‏,‏ بل مصدر خطر في المجتمع المصري والعربي‏,‏ وكلنا نشكو من العنف الزائد في أسلوب ولغة الحوار بين المثقفين سواء في برامج وندوات الفضائيات‏,‏ أو في مقالات وتعليقات الصحفيين والكتاب‏,‏ أو في اللقاءات التي تضم أي قطاع من المثقفين‏,‏ وحتي الاكاديمية أيضا‏,‏ ومن الطبيعي أن ينتقل هذا العنف في الحوار إلي الشباب‏,‏ وإلي بقية قطاعات المجتمع باعتبار أن المثقفين هم القدوة وأصحاب التأثير الأكبر في العقول والأفكار والسلوك‏...‏ وقد أصبح مألوفا أن يتحول كل حوار إلي معركة‏,‏ أو ساحة قتال وتراشق بأسلحة مسمومة من الألفاظ الجارحة‏,‏ والاتهامات‏,‏ والاستفزاز‏,‏ وغاب الحوار بمعناه الحقيقي وأصبح نادرا‏,‏ بينما أصبحت الصراعات الكلامية هي السائدة‏,‏ ولم يعد حوار المثقفين في عمومه وسيلة لبحث أي موضوع من زواياه المتعددة ووجهات النظر المختلفة‏,‏ وبهدف الوصول إلي نقطة التقاء‏,‏ أو إلي الحد الادني من الالتفاق علي الاقل حول المبادئ والمقدمات‏,‏ وبدلا من ذلك اصبح كل حوار ينتهي بالخلاف من حيث بدأ‏,‏ ولا يحقق نتيجة مفيدة معظم الاحيان بخلاف التراشق اللفظي‏,‏ وتبادل التشكيك والاتهامات‏...‏ وهكذا تهدر طاقة المثقفين فيما لا طائل وراءه‏,‏ ولا تستفيد الأمة من العقول التي كان يمكن أن تكون القيادة الفكرية في وقت يعاني فيه الشباب عدم وضوح الرؤية لكثير من القضايا التي تتعلق بمستقبله ومستقبل بلده‏.‏


وفي رؤية الدكتور أحمد مجدي حجازي للمؤتمر حول هذه الظاهرة المقلقة أن اشكال العنف كثيرة منها العنف في الحياة اليومية داخل الاسرة أو المدرسة أو المؤسسات الاجتماعية‏,‏ ومنها العنف ضد المرأة أو الطفل‏,‏ وكلها تؤدي إلي حالة من التفكك وعدم الاستقرار وانعدام الأمن السياسي والاجتماعي‏,‏ لذلك يجب دراسة لماذا‏,‏ ومتي تتشكل ثقافة العنف‏,‏ وتتمكن من الشخصية‏,‏ وتكون سمة من السمات الشخصية للإنسان‏,‏ فيتحول إلي إنسان يرفض الآخر أيا كان هذا الآخر‏...‏ وقد تأخر البحث في هذه الظاهرة برغم خطورتها‏,‏ لأن الباحثين انشغلوا بدراسة العنف المادي والجريمة والانحراف السلوكي والايذاء البدني‏,‏ ولم يلتفتوا إلي أن حياة الناس مليئة بأنماط من العنف المعنوي‏,‏ ودوافع التنكيد أو المناكدة‏,‏ وتعمد الإزعاج والتنغيص‏,‏ وعدم احترام الآخر وأفكاره‏...‏ وهذا ما يسميه الدكتور حجازي الصراع الكلامي مع الآخر‏,‏ وهذا بالضبط هو ما نشاهده هذه الأيام علي شاشات بعض الفضائيات العربية بصورة متعمدة ومخططة بادعاء أن هذا هو التعبير عن سخونة الحوار وحرارة المشاعر القومية وهو كما يقول عالم الاجتماع نوع من التكدير الاجتماعي ومع تكراره واستمراريته يصبح عائقا أمام تطور الإنسان العربي‏,‏ وتحويله إلي إنسان انفعالي وعدواني ورافض لكل فكر‏,‏ وكل إنسان آخر‏,‏ وهذه المرحلة هي قمة الخطر التي يجب ان نعمل علي تفادي الوصول إليها‏.‏


في رؤية الدكتور حجازي أن العنف المعنوي يظهر بين المثقفين العرب عندما يتحاورون فيكرسون جهدهم فقط لنقد بعضهم بعضا‏,‏ ويبرزون عضلات عقولهم فقط للاعتداء علي الآخرين‏,‏ وفي الوقت نفسه فإن الآخر يبدأ الحوار وهو متحفز ومستفز ومستعد للنزال‏,‏ ويمارس العنف هو الآخر لأن المثقفين العرب أصبحوا يعتبرون كل اختلاف اعتداء يتعلق بأشخاصهم وكرامتهم ولا يتعلق بالموضوع‏..‏ فيتحول كل حوار إلي معركة يتبادل فيها المتحاورون الاعتداء بعضهم علي بعض‏..‏ بالنظرة‏..‏ والكلمة الجارحة‏..‏ وبالايماءة التي تنطوي علي دلالات غاية في القسوة‏...‏ وفي النهاية فإن انتشار هذا العنف المعنوي يهدر طاقات المثقفين‏,‏ ويسبب لهم حالة من الاحباط والقهر والعجز عن الإبداع‏,‏ وربما يدفع بعضهم إلي الابتعاد والتخلصي عن المشاركة‏.‏

القضية ــ كما نري ــ مهمة وتحتاج إلي إعادة النظر في أسلوب التربية في البيت والمدرسة والجامعة‏,‏ وفي الصحافة والتليفزيون بصفة خاصة‏..‏ لغرس ثقافة الحوار والتفاهم بدلا من ثقافة العنف‏,‏ وتعميق الشعور بقبول الآخر بدلا من رفضه علي طول الخط‏,‏ وتعويد المتحاورين علي الفصل بين ما هو ذاتي‏,‏ وما هو موضوعي‏...‏ وتعليمهم توجيه النقد للفكرة وليس لصاحبها‏..‏ وهذه درجة من النضج نستحقها‏.

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف