الإمام.. الغائب الحاضر

أصدق وصف للشيخ متولى الشعراوى أنه «رجل القرآن» فهو من القلائل الذين حباهم الله قدرة خاصة جدًا لفهم القرآن ومعرفة بعض أسراره، وعلى الرغم من كثرة المفسرين على مدى القرون فهو يمتاز عنهم بالتعمق فى فهم كل كلمة، وله لمحات ونظرات لم يسبقه إليها أحد ممن تصدوا للتفسير ومنهم الكبار الذين لا غنى عن الرجوع إليهم.
تميز الشيخ الشعراوى بشعبية طاغية ليس فى مصر وحدها بل فى كل العالم العربى والإسلامى، وكان له تأثير كبير على المجتمع وعلى الناس كما لم يحدث لغيره فى أى وقت، ربما؛ لأن الله منحه «القبول»، وربما؛ لأنه تعمق فى دراسة ألفاظ ومعانى ومقاصد القرآن، وربما؛ لأنه كان يعتمد على إلهامه فيلهمه الله ويفتح عليه، وربما؛ لأنه متخصص فى اللغة العربية والبلاغة تخصصًا دقيقا مما جعله يدرك بلاغة القرآن، وربما لكل هذه الأسباب اجتمعت فى رجل من رجال الله، شاء الله أن يبعثه ليعيد عامة الناس إلى الارتباط بالقرآن.
احتار الباحثون فى الإجابة عن هذا السؤال: لماذا كان الشيخ الشعراوى ظاهرة فريدة وكأنه وحده الذى علمه الله مفاتيح القرآن.
قال البعض لأن الرجل أسلوبه بسيط يناسب المثقف كما يناسب العامة، ولغته الريفية والتلقائية تجذب المستمعين وتجعله يقترب من الجمهور ويتسلل إلى قلوبهم قبل عقولهم، كذلك فإن الشيخ الشعراوى كان إلى جانب كونه شيخ المفسرين كان أيضًا من كبار رواة الأحاديث النبوية والنوادر والطرائف التاريخية، وكانت لديه موهبة خاصة فى الإقناع وهذا ما لم يبلغه أحد من علماء الدين فى زماننا.
***
من يستطيع أن يأخذ مكان الشعراوى ويملأ الفراغ الذى تركه منذ رحيله وإلى اليوم؛ الإجابة: لا أحد، صحيح هناك عشرات المتحدثين والدعاة والمفسرين ولكل منهم جمهوره، ولكن ليس من بينهم من يحظى بالإجماع الجماهيرى والحشد الكبير من الجمهور الذى يتبعه فى كل مكان يذهب إليه، وحتى بعد وفاته فإن الناس يذهبون إلى « دقادوس» ليزوروا قبره وذلك تعبيرًا عن الشوق إليه والاعتراف بمكانته. ومن آرائه الحكيمة أن الإنسان من صنعة الله، والصانع هو الذى يعرف بدقة ما فى صناعته، فالله يعلم أن الإنسان فيه عواطف وغرائز وله عقل وضمير.. الله أعطى الإنسان كل شىء وسخّر له ما فى الكون، وللحفاظ على سلامة هذه الصنعة فإن الله قال للإنسان افعل كذا ولا تفعل كذا، وترك له الخيار والحرية فى أشياء يفعلها أو لا يفعلها، فالإنسان حر، هداه الله طريق الخير وطريق الشر ونبهه إلى عواقب السير فى هذا الطريق أو ذاك وما دام الإنسان حرا فى الاختيار فهو مسئول أمام من خلقه وهداه.. والأشياء التى ألزم الله الإنسان بها محدودة وقليلة جدًا بالنسبة للأشياء التى أباحها الله.. المحرمات قليلة ومنصوص عليها نصًا صريحًا فى القرآن ولا يجوز أن يضيف إليها.. لا حرام إلا ما حرمه الله وليس ما حرمه إنسان. والله حين خلق الملائكة منحهم العقل وجردهم من الغرائز، وخلق الحيوان وجرده من العقل وأعطاه الغرائز فهو يعيش بالغريزة، لكن الإنسان أعطاه الله العقل والغريزة معا، ولم يحرم عليه إلا أشياء محدودة، خلق الله آدم وأمره ألا يأكل من شجرة واحدة ويأكل كما يشاء من كل الأشجار فى الجنة، فكل شىء مباح، الأصل الإباحة، والتحريم محدود.
***
سئل يومًا: يا شيخنا هناك من قال إنك تعمل كمخدر للجماهير، فأجاب: من الذين يقولون ذلك؛أنا أُسر بما يقولونه لأنهم دللوا على أن وجودى فى ساحة الهداية كان ضروريًا، وسئل عن انتشار التكفير بحيث يحل البعض لنفسه أن يحكم على غيره بأنه كافر فقال إن الكافر هو الذى ينكر وجود الله، أما الذى يخرج عن حدود الله فهو فاسق، والفاســق هو الذى ينقــض العهــود بينه وبيـن الله (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) وهو ممن قال الله عنهم ( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ) و حكم الله على الفاسقين جـاء فى قوله تعــالى ( أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ )ولأن من طبيعة الإنسان أنه يسعى إلى الكسب فى كل ما يفعله لذلك فإن الله جعل الإيمان والطاعة صفقة وحياة الإنسان فى الدنيا صفقة فقال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ )وقــال فى صفة المؤمنيــن ( يرجون تجارة لن تبور ) وقال فى حـق الكافـريـن( فما ربحت تجارتهم ) وفى قمـة الإيمان قـال( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ ) فما دامت حياتك فى الدنيا تجارة وصفقة فحاول أن تكون رابحا مع الله وتخرج من الدنيا «كسبان» بدل أن تخرج منها «خسران». وأول سمات الفاسق: نقض العقود لقوله تعالى ( الذين ينقضون عهد الله بعد ميثقه )والذى يوثق العهد هو الله، والفاسق هو الذى يقول غير ما يعتقد ويعتقد غير ما يقول ويغير مواقفة لأنه ليس صادقًا مع نفسه ولا مع الناس، والمثال على ذلك أن عبد الله بن سلام كان سيد اليهود وذهب إلى النبى وأسلم وقال للنبى: أرجو أن تسأل اليهود عنى قبل إعلان إسلامى، فقال اليهود عنه إنه سيد قومه وأكرمهم وأفضلهم فخرج عبد الله بن سلام عليهم معلنا إسلامه فقالوا هو أكبر الفاسدين.
***
والشيخ الشعراوى من المجتهدين أضاف من خواطره الكثير إلى التفاسير الكبرى التى تمثل المراجع التى لا غنى عنها لمن يريد الاشتغال بهذا العلم مثل تفسير ابن عباس، وعبد الله بن مسعود، والإمام على بن أبى طالب، وأبى بن كعب، وفى حديث مع المرحوم الدكتور محمد حسين الذهبى - وزير الأوقاف وهو فى الأصل أستاذ التفسير بجامعة الأزهر - سألته عن رأيه فى منهج الشيخ الشعراوى فى التفسير فقال لى إنه يجد فى تفسيره اعتمادا على ابن ماجه (المتوفى سنة 273 هـ) وتفسير الطبرى (المتوفى سنة 327 هـ) بتفسير القرآن بالرجوع إلى ما قاله الصحابة والتابعون وتابعو التابعين، وأهم ما فيه أنه كان على علم بالتفاسير المحرفة وبالإسرائيليات التى تسربت إلى كتب التفسير وما أكثرها وما أخطرها، كما أنه لم يقع فى خطأ التعصب المذهبى، وكانت لديه القدرة العلمية والعقلية على كشف ونقد النزاعات المنحرفة فى كتب التفسير وإدراك الزائف من الأحاديث التى نسبها المزورون إلى الرسول والصحابة بحسن نية أو بسوء قصد ترويجا لمذهب أو بدافع المصالح والأهواء، وقد وقع بعض المفسرين الثقاة فى هذا الخطأ بالنقل عن هذه التفاسير دون تمحيص وهذا ما جعل بعض الإسرائيليات تجرى على ألسنة بعض رجال الدين وكأنها صحيحة ويتابعهم عامة الناس، وهذا ما أدى إلى نشر الفكر غير العقلانى والقصص الموضوعة عن الأنبياء، وقد عنى أبوأسحق النيسابورى (المتوفى سنة 427 هـ) بالكشف عن هذه الإسرائيليات والانحرافات فى كتابه (الكشف والبيان عن تفسير القرآن) وكذلك فعل علاء الدين أبو الحسن المعروف باسم الخازن( المتوفى سنة 741) فى كتابه (لباب التأويل فى معانى التنزيل).
ومن أمثلة الانحراف فى كتاب الثعلبى فى تفسيره لما جاء فى سورة الكهف) اذ اوى الفتيه الى الكهف ) فروى عن وهب بن منبه وغيره رواية طويلة عن هؤلاء الفتية ذكر فيها أسماءهم واسم كلبهم وحوارا غريبا بين الكلب والفتية حين تبعهم وأرادوا رده، وأغرب من ذلك ذكره أن النبى صلى الله عليه وسلم طلب من ربه أن يريه أصحاب الكهف فأجابه الله بأنه لن يراهم فى الدنيا وأمره بأن يرسل أربعة من أصحابه إليهم ليبلغهم رسالة الإسلام.. أما الشيخ الشعراوى فلا نجد عنده شيئًا من هذا وهو يعتمد على تفسير القرآن بالقرآن والتعمق فى فهم معانى الألفاظ وأسرار البلاغة فيه، وقد أعاد الاعتبار إلى المنهج العلمى والعقلى فى التفسير، ومن هنا فهو مجدد؛ لأنه استبعد ما يسىء إلى الإسلام فى الكتب القديمة.
الشيخ الشعراوى أحبه الله، فحببه فى القرآن، وحبب الناس فيه، ورفع ذكره حيًا و ميتًا، وجعل صوته حاضرًا بعد أن غاب بجسمه، فهو الحاضر الغائب.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف