يوم رحيل طه حسين

كان يوم السبت 27 أكتوبر عام 1973 يوما عصيبا على سوزان زوجة طه حسين.. ففى نحو الساعة الثالثة بعد الظهر فاجأته أزمة قلبية فلم يستطع أن يتنفس إلا بصعوبة بالغة، وكان يحاول أن يتكلم فتخرج كلماته بصعوبة متقطعة وهو يلهث، وسارعت فى طلب الطبيب المعالج فلم تعثر عليه، ثم وصل الطبيب بعد أن كانت النوبة قد زالت وعاد طه حسين إلى حالته الطبيعبة.
فى هذه اللحظة - وفى حضور الطبيب - وصلته برقية من الأمم المتحدة تهنئه على فوزه بجائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وتحدد موعدا لحضوره لتسلم هذه الجائزة فى العاشر من ديسمبر، وقرأ الطبيب له البرقية مهنئا، لكن طه حسين اكتفى بإشارة من يده كأنها تقول: «وما أهمية ذلك؟» وكان دائما غير مهتم بالنياشين والأوسمة والأنواط وقد حصل على الكثير منها من العديد من دول العالم. بعد ذلك أعطاه الطبيب حقنة وأوصى بإعطائه مسكنا خفيفا بالليل ثم غادر الطبيب، وبعده غادر السكرتير، ثم غادر الشغال، وبقيت هى وحدها معه. كان إبنها مؤنس فى باريس، وابنتها أمينة مع زوجها وزير الخارجية فى الخارج، وجلست إلى جانبه وهو فى شبه غيبوبة، وفى لحظة - وهو بين النوم والبقظة - تفوة بيضع كلمات ثم قال:
إنهم يريدون بى شرا.. هناك أناس أشرار!
قالت له: - من الذى يريدبك شرا يا صغيرى؟
كل الناس!!
حتى أنا؟
لا.. ليس أنت.
بعد لحظات قال بسخرية مريرة:
أية حماقة؟ هل يمكن أن تجعل من الأعمى قائد سفينة؟
تقول زوجته وهى تروى هذه اللحظات: من المؤكد أنه كان يستعيد تلك اللحظات القاسية والعقبات التى كان يواجهها من خصومه.
بعد لحظة قال لها كعادته:
اعطنى يدك.
وأخذ يدها وقّبلها ونام، وظلت هى يقظه إلى جانبه تراقٍٍب تنفسه.
???
فى الصباح قدمت له كوبا اللبن فشرب قليلا منه، وتمتم ببضع كلمات لم تتبينها، وناولته ملعقة عسل بلعها، وبدا بالغ الشحوب وبعد لحظات وجدته ساكنا.. لا تنفس.. ولا نبض.. طلبت الطبيب وظلت جالسة قربه. تقول: كنا وحدنا، كل منا قرب الآخر كما كنا فى بداية طريقنا، وفى هذه الوحدة أخذت أحدثه وأقبّل جبهته التى كنت أحبها، تلك الجبهة التى لم تنجح أية صعوبة فى تكديرها، وكانت جبهته لا تزال تشع نورا! وظللت أكرر: ياصديقى.. لأنه قبل كل شئ كان أفضل صديق لى. بل كان صديقى الوحيد. وعندما جاء الطبيب بكى وهو يخبرها بوفاته، وشعرت بارتباك حتى اسعفتها الذاكرة بالاتصال بصديق للأسرة (محمد شكرى) فجاء على عجل.. قالت له: إننى وحيدة (!) فرد عليها - لا تقولى ذلك فكل البلد وراءك. إنه لم يعد يخصك.
تقول: كان وجهه وهو راقد هادئا ترتسم على شفتيه الابتسامة الرقيقة التى أحبها، وكان يبدو مستسلما للراحة وكل ما فيه يعبر عن الصفاء والسلام.
كان موته يوم الاحد. اليوم الثالث من رمضان. ساعة الفجر. ساعة التجلى الإلهى.
???
بعد ذلك تذكر زوجته ما شاهدته فى حلم عابر كانت قد نسيته.. تقول: قبل موته بأربع سنوات، فى لحظة من اللحظات التى كنت أغفو فيها على الرغم منى رأيت حلما لم أفهمه وقتها.. رأيت خاتم زواجى تحطم بطريقة لا تفسر، وأنا أنظر إليه حزينة، ولا حظت أن داخل الدائرة المكسورة شيئا من السواد كما لو كان غبار فحم..!
هل كانت علامة مبكرة دون أن تنتبه إليها؟!
???
بعد سنوات تكتب:
«وحيدة أنا هذا المساء.. أفكر فيك بكثير من الحب.. وفى كل يوم أحد أعيش من جديد هذا الصباح الذى انتزعت فيه منى.. كلى معك.. الصمت فظيع.. أحاول أن أقرأ شيئا فأقول لنفسى سأقرأ له هذا فورا. ثم أشعر بقبضة تضرب على صدرى.. يقلقنى عجزى عن إعادتك إلى قربى ويشعرنى ذلك باليأس.. أعرف أنك تحيا.. أشعر أن بوسعى أن أخاطبك وأن بوسعك أن تخاطبنى، لكنك تفلت منى.. آه.. ما أبعدك يا صديقى.. لو تركت لنفسى لبكيت دون توقف».
ولم تكن وحدها التى تبكى عليه. فقد بكت مصر عليه وبكى محبوه وعارفوا فضله على الحياة الثقافية والفكرية ليس فى مصر وحدها ولا فى العالم العربى ولكن فى العالم، فهو الذى جعل الأدب العربى أدبا عالميا يقرأه الناس بأكثر من عشرين لغة.
وبكى عليه كثيرون ساروا فى جنازته.
فى يوم 31 أكتوبر عام 1973 تجّمع فى القاعة الكبرى فى جامعة القاهرة مئات من الشخصيات والرموز فى المجتمع المصرى والدول العربية والأجنبية، وكان النعش الذى يضم جثمانه مغطى بعلم مصر، والصمت مطبقا، وفى كل لحظة يتوافد عشرات بعدهم عشرات حتى ضاقت القاعة بهم، وصوت المقرئ يتردد فى القاعة «ياأيتها النفس المطمئنة إرجعى إلى ربك راضية مرضية فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى».. والرؤوس مطرقة.. أصحاب المناصب الرسمية فى الدولة لم يتخلف منهم أحد، وسفراء جميع الدول دون استثناء، وحشود الأدباء والصحفيين وأساتذة الجامعات.. وعلى النعش عبارة كتبها توفيق الحكيم تقول: «إن روحك العظيمة لم تشأ أن تفارق جسدك إلا بعد أن فارق اليأس روح مصر».. ثم سارت الجنازة من حرم الجامعة.. جنازة عسكرية مهيبة.. تتقدمها صفوف من حاملى الورود ثم صفوف من حاملى النياشين والميداليات.. ثم آلاف من المواطنين.. خّيل إلىّ أن مصر كلها كانت خلفه فى هذا اليوم.
???
تحكى زوجته أنه فى عام 1917 أثناء الحرب العالمية الأولى وهو فى باريس أثناء البعثة للدكتوراه تلقى نبأ غرق السفينة المصرية التى كان يستقلها «ضيف» صديقه وزميله فى الدراسة فى باريس بعد إصابتها بقذيفة من القوات البحرية الألمانية فصار يبكى ويردد: «خسائر بلدنا ستبقى بلا تعويض. متى سيأتى اليوم الذى تدافع فيه عن نفسها بنفسها؟. وشاء القدر أن تنقذ سفينة صديقه من الغرق. وبعد خمسة وخمسين عاما تبارك الله الذى أحياه حتى يتلقى خبر انتصار أكتوبر.. ويومها قال: الحمد لله.. ثم أضاف: «إننا لا نشكر الله بما فيه الكفاية.. لا شك أن شكرنا لا يفى نعمة الله علينا».

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف