سياسة جديدة للصناعة
معظم الذين يتحدثون عن قضية التصدير يطالبون بزيادة الصادرات وكأن ذلك ممكن دون العمل أولا علي تطوير الانتاج الصناعي والزراعي ليساير متطلبات وشروط الأسواق العالمية وبذلك يمكن تصديره. فالخطأ يبدأ من نقطة البداية في تناول قضية التصدير التي لا تنفصل عن الاوضاع الحالية للصناعة والزراعة والبحث العلمي والتكنولوجيا والتعليم, هي اذن حزمة واحدة, أو منظومة متكاملة أو مقومات لابد منها ويأتي التصدير نتيجة لها بعد ذلك.
ومجلس الشوري ينبه الي ضرورة اعداد سياسة صناعية لمصر في المدي الطويل والقصير بشرط أن ترتبط هذه السياسة بسياسات تحديث المجالات الأخري, وبغير ذلك لن تؤتي أية مشروعات لتحديث الصناعة نجاحا. ولان تحديث كل الصناعات في كل المجالات أمر صعب, فان تحديد الأولويات هو الممكن, بالتركيز علي قطاعات لنا فيها ميزة تنافسية.. والجديد في الموضوع ان مجلس الشوري ينبه الي وهم كبير صاحب عملية التحول الي اقتصاد السوق هو انسحاب الدولة من دورها في الحياة الاقتصادية, وقد سادت هذه النظرية نتيجة ضغوط مفكرين اقتصاديين ورجال أعمال أرادوا أن تخلو لهم الساحة دون رقيب أو حسيب ودون ضابط أو رابط وترتب علي ذلك ــ كما يقول مجلس الشوري ــ ترك صناعات عديدة لمصيرها المحتوم تحت ضغط رياح العولمة والمنافسة الاجنبية, بينما دور الدولة يجب ألا ينتهي, ودور الدولة لم ينته في أعتي الدول الرأسمالية, بل انه يزداد أهمية, وتتحدث الدول الرأسمالية عن اعادة اختراع الحكومة وعن الهندسة الادارية مما يؤكد الدور الجديد للدولة في السياسات العامة, وبالأدوات التي تستطيع الدولة التأثير بها دون المساس بالاقتصاد الحر, وهذه الأدوات كما يقول المتخصصون هي الضرائب, والحوافر, والاعفاءات, وسعر الفائدة, والرسوم, والتخطيط التأشيري.. ولذلك يطالب مجلس الشوري بان تكون هيئة التصنيع هي المسئولة عن اقامة ومتابعة نظام التخطيط التأشيري, بعد دراسة كل صناعة واحتياجاتها وحجم السوق المحلية والصادرات والأسواق وما يجري في الدول المنافسة والتطور المتوقع في السنوات الخمس القادمة.
وبناء علي هذه الدراسات تعد هيئة التصنيع خطة تأشيرية للصناعات ذات الأولوية والمناطق المناسبة لها, وتقدم هذه الخطة لكل مستثمر لكي يقرر في ضوء هذه الدراسة اختيار المشروعات الصناعية التي تحقق له أكبر قدر من العائد وتجد لها أسواقا في الخارج. علي أن تكون الاعفاءات والمزايا للمشروعات الداخلة في الخطة والتي تتوافر لها احتمالات النجاح فقط وليس لكل المشروعات, وهذا ما تنفذه الصين, فهي لا تمنح الاعفاءت لكل المشروعات علي قدم المساواة, ولكنها تعطي مزايا أكبر للمشروعات التي ستدخل للبلاد تكنولوجيا جديدة وللصناعات المخصصة للتصدير والمشروعات التي تقام في المناطق المتخلفة والمحرومة لتنميتها بينما تمنح مزايا أقل للصناعات التي لها مثيل قائم أو الموجهة للسوق المحلية, ولا تعطي أية مزايا للصناعات التي تستهلك الطاقة أو التي تستخدم تكنولوجيا موجودة في البلاد.
المشكلة التي سببت الركود للانتاج الصناعي هي تكرار المشروعات المتماثلة, وهذه المشكلة معروفة حتي في الكتب المدرسية فأصحاب الأموال يتجهون الي تكرار المشروعات التي نجحت وحققت الربح لأصحابها, فيؤدي ذلك الي زيادة المعروض من هذه السلع وتنشأ مشاكل التسويق والتعثر المالي.. ولعلنا نذكر كثرة صناعات الملابس الجاهزة وزيادة الاقبال علي اقامة المباني السكنية للتمليك حتي أصبح معظم المستثمرين المصريين يعملون في هذين المجالين بينما هناك مجالات أخري كثيرة كان يمكن لهم أن يحققوا فيها الربح والتفوق.
ولا أعرف ان كان مفيدا تكرار الحديث عن أهمية البحوث العلمية للصناعة, لان هذا الحديث أصبح مملا لكثرة تكراره دون تنفيذ, والجميع يعلمون ان الصين وماليزيا وحتي الفلبين واندونيسيا تخصص جزءا من أموال كل مشروع للابحاث الخاصة بالتطوير والابتكار وخفض التكاليف وابحاث التسويق.. بينما المخصص لهذه المجالات في الصناعات المصرية متوقف عند الصفر, ومازال الكلام عن ربط الصناعة بالبحث العلمي موضوعا للحديث في المؤتمرات والندوات والصحف لا أكثر. كما ان الكلام عن قانون جديد لربط حوافز الاستثمار بنوعية الصناعة الجديدة وموقعها وبقصرها علي التصدير هو أيضا حديث لفض المجالس ولا يبدو انه سيري النور قريبا. كما سيظل الحديث عن إزالة المعوقات في الضرائب والجمارك مجرد نوع من احلام اليقظة, ومع ذلك فان مجلس الشوري لديه برنامج كامل لتحديث الصناعة من المصلحة ألا يلقي في الادراج ومن الخطأ ان نتصور أن تنفيذه مسئولية وزارة الصناعة وحدها لانه مسئولية جميع الوزارات دون استثناء.