مراجعات أمريكية
لا يستطيع أحد أن يوجه نقدا لمواقف وسياسات الادارة الأمريكية الحالية كما يفعل الأمريكيون أنفسهم, والصحافة الأمريكية لا تخلو يوما من مقالات وتحليلات تكشف عن اتجاهات قطاع كبير من الرأي العام تشعر بأن سياسة أمريكا في الافراط في استخدام القوة والانفراد بالقرار وتغليب مصالحها علي مصالح وحقوق الآخر.. هذه السياسة لن تكون في صالح أمريكا في النهاية.
وعلي سبيل المثال نشرت صحيفة هيرالد تريبيون, مقالا بعنوان تراجع الاعجاب بأمريكا وتزايد الخوف منها بقلم فيليب بورينج يقول فيه: ان الاحترام لأمريكا من دول العالم كان ينطوي علي الاعجاب من ناحية والخوف من قوتها العسكرية والمالية والتجارية, وكانت أمريكا تمثل النموذج للتنمية الاقتصادية المتفوقة والمؤسسات السياسية القوية والحريات الشخصية الكاملة, ولكن تراجع ذلك واصبحت أمريكا تمارس القسوة علي أصدقائها وحلفائها وتعتبرهم علي الهامش. وقوبل خطاب محور الشر للرئيس بوش بالدهشة والنقد في داخل وخارج أمريكا, لما فيه من التهديد وعدم الاهتمام بمصالح الحلفاء مثل المانيا وكوريا الجنوبية, ولم يكن مفهوما لماذا الربط بين كوريا الشمالية وايران, أو بين ايران وعدوها القديم العراق, ولماذا تجاهل الرئيس بوش التشاور مع حلفائه في الناتو؟ ولماذا توجد القوات الأمريكية في الفلبين ووجودها يثير المشاعر الوطنية هناك ويثير الشكوك لدي الجيران المسلمين؟ وليس هناك تبرير سوي ما قدمه البروفيسور بول كيندي من جامعة ييل من أن الانتعاش الاقتصادي في أمريكا سيعتمد علي انفاقها40% من جملة الانفاق العالمي علي السلاح, وتفوقها في تكنولوجيا الا
سلحة, وعدم احتياجها للاخرين في الحروب ضد دول مثل العراق, فلاعجب ان تقوم سياستها علي ترويع الاعداء وتجاهل الاصدقاء.
ويضيف الكاتب الأمريكي فيليب بورينج ان سلام أمريكا يعتمد علي قوتها وايضا علي رضا الآخرين, وهذا الرضا بدوره يعتمد علي احترام أمريكا لمبادئها وعلي احترام حرية النظام الاقتصادي العالمي الجديد المفتوح, وهذا يعني ان تتعاون أمريكا مع الدول الأخري وهذا ما افتقدته السياسة الأمريكية في الفترة الأخيرة, وهذا الاحساس ناتج من موقف أمريكا الحالي الذي يتسم بالقسوة تجاه الدول الصغيرة, وضغوطها المتزايدة علي صندوق النقد والبنك الدوليين, وظهر ذلك في عدم تدخلها في أزمة الارجنتين وانهيارها المالي بعد أن كانت تساند الأرجنتين وتعتبرها من أقرب الاصدقاء, كما ظهر في موقف الازدراء والتعالي تجاه اليابان.
ويقول بورينج ايضا ان الاقتصاد الأمريكي يبدو قويا لان تمويل العجز يتم عن طريق احتياطي الدولار, ولن يستمر ذلك طويلا, وفي الوقت نفسه اضعفت حركة الاسواق فضيحة انهيار شركة انرون وهي أكبر شركة للطاقة في العالم, وتراجع مؤشر نازداك, كما اضعفت الرققابة التي فرضت علي الاعلام الأمريكي بعد أحداث سبتمبر من النموذج الأمريكي للاعلام الحر, وزاد علي ذلك قانون السماح باعتقال غير الأمريكيين دون ابداء الأسباب, ومعاملة الاسري الأفغان في القاعدة الأمريكية في كوبا, وقد تشعرأمريكا بالقدرة والقوة المتناهية, ولكن تأثيرها العالمي يحتاج الي الاصدقاء, وهم أيضا لهم مصالحهم القومية المشروعة الخاصة بهم, وتحتاج السياسة الأمريكية الي اعادة ضبط التوازن بين الاعجاب بأمريكا والخوف منها, وهذه علي الأقل أمنية اصدقاء وحلفاء أمريكا.
ومن مثل هذه الأفكار المطروحة في الصحافة الأمريكية نري ان هناك مراجعة للمواقف والسياسات, ودعوة لاعادة النظر في السلوك السياسي الخارجي, بدلا من الاكتفاء بالتساؤل الساذج لماذا يكرهنا العالم؟ هل لأننا نموذج النجاح والقوة والحرية والمباديء الانسانية أو لأننا نقدم للآخرين مساعدات ولا يقدمون لنا ما ينبغي عليهم أن يقدموه في مقابلها.. مثل هذه الأسئلة السطحية لا تصل باصحابها الي اجابات صحيحة لانها لا تصل الي العمق الحقيقي للمشكلة, والمشكلة كما طرحتها كاتبة أمريكية أخري في صحيفة هيرالد تريبيون أيضا في مقال بعنوان الاحادية لا تزال في واشنطن قالت فيه ان احداث سبتمبر لم تغير سوي القليل في السياسة الخارجية الأمريكية, وتبدد التفاؤل الذي ساد عندما أعلن الرئيس الأسبق جورج بوش الأب ان حادث بيرل هاربر أيقظ أمريكا من غفوتها التي جعلتها تظن انها قادرة علي تجاهل احترام الحرية في أوروبا وآسيا خلال الحرب العالمية الثانية فان الهجوم الأخير يجب أن يمحو الفكرة السائدة بإن أمريكا تستطيع السير بمفردها في حربها ضد الارهاب أو في غيرها ولكن ما حدث كان عكس ما توقع بوش الأب, فقد مد الآخرون يد العون لأمريكا وقدموا ما لديهم من معلومات المخابرات وجمدوا الارصدة التي طلبت أمريكا تجميدها, وبعد أن قلت أهمية التعاون الدولي اتخذت الحكومة الأمريكية طريقها الخاص بها منفردة, وقللت من قيمة حلف شمال الاطلنطي, ووقفت وحدها تعارض اتفاقية التقليل من الغازات المدمرة للبيئة, كما امتنعت وحدها عن حضور مؤتمر الدول الموقعة علي معاهدة حظر التجارب علي اسلحة الدمار الشامل, ووقف الوفد الأمريكي وحده في مؤتمر جنيف الأخير ليعارض تنفيذ معاهدة منع انتاج وامتلاك الاسلحة الجرثومية برغم ما جري في أمريكا نتيجة الخطابات الملوثة بجراثيم مرض الجمرة الخبيثة. واخيرا قررت أمريكا الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الصواريخ المضادة للصواريخ العابرة للقارات التي كانت سببا للتعاون بين أمريكا وروسيا علي مدي ثلاثين عاما.
والفكرة التي تنتهي اليها فلورا لويس هي أن مسعي الرئيس بوش الي عدم التزام أمريكا بآراء ومصالح الآخرين والاحتفاظ بحرية الحركة بما يحقق مصالحها دون أي اعتبار آخر سوف يحقق لها حرية التصرف اليوم ولكنها سوف تفقد شركاءها واصدقاءها غدا.