تجربة التنمية فى الصين
منذ أيام زار القاهرة وفد من معهد الشعب الصيني للشئون الخارجية بدعوة من المجلس المصري للشئون الخارجية, وأجري حوارات حول العولمة, وأوضاع العالم الحالية وتطوراتها المحتملة, كما ألقي رئيس الوفد السفير ماي شياو رونج, وهو من الشخصيات السياسية الصينية البارزة, خطابا حول التنمية في الصين, وعلاقتها بالسياسة الخارجية, أوضح فيها جانبا مهما من جوانب نجاح تجربة التنمية والتحديث في الصين.
والدليل علي نجاح التجربة الصينية أن مجلة تايم الأمريكية عندما قامت برصد توقعات عام2002 لم تجد نقطة الضوء في العالم إلا في الصين, فقالت إن انضمامها لمنظمة التجارة العالمية جعل منها أكثر الأماكن أمانا لاستثمارات الشركات الأجنبية, كما أن رخص الأيدي العاملة فيها يعني بالنسبة لهذه الشركات عامل جذب آخر لضمان تحقيق الربح, وبعد قيام الصين بتحديث القاعدة الصناعية المتخلفة يتوقع المحللون زيادة صادراتها بنسبة تصل إلي8% في هذا العام, ومن المتوقع أن تصبح الصين أكبر دولة مصدرة في العالم.
أما السفير شياو رونج فكان ـ كعادة الصينيين ـ متواضعا, فقال إن الصين حققت إنجازات اقتصادية في الفترة من1949 حتي السبعينيات, ولكنها واجهت نكسة وصلت باقتصادها إلي درجة الانهيار خلال سنوات الثورة الثقافية العشر1966 ـ1976, ولم تبدأ السير علي الطريق الصحيح إلا من نهاية عام1978, بعد القرار الذي اتخذته القيادة الصينية بزعامة دنج سياو بنج, بالتركيز علي جانبين: الأول هو إجراء إصلاحات داخلية, والثاني هو الانفتاح علي العالم, ومنذ عام1992 تخلت الصين عن الاقتصاد الموجه وعن النموذج السوفيتي في إدارة الاقتصاد.
ونتيجة للجدية في تنفيذ سياسات التغيير والإصلاح والتحديث والنجاح في جذب الاستثمارات والشركات العالمية العملاقة, زاد الدخل حتي بلغ9.5 تريليون يوان اليوان عملة الصين والدولار يساوي8 يوانات بزيادة7.3% علي العام السابق2000, واليوم تتصدر الصين العالم في الانتاج الصناعي والزراعي, وبرغم فإنها لا تملك سوي7% فقط من الأراضي الزراعية في العالم, إلا أنها نجحت في توفير الغذاء لسكانها الذين يبلغون22% من سكان العالم. وبعد أن كانت نسبة الفقراء25% في عام1978, أصبحت أقل من5%. وبلغ حجم التجارة الخارجية500 مليار دولار في عام2001, ووصل تدفق الاستثمارات الأجنبية إلي معدل100 مليون دولار يوميا وبلغت الاستثمارات الأجنبية لعام2001 أكثر من47 مليار دولار, ووصل عدد المشروعات الاستثمارية الأجنبية390 ألف مشروع بأكثر من746 مليار دولار, وبلغ الاحتياطي من النقد الأجنبي212 مليار دولار.
ووفقا لتحليل السفير شياو رونج فإن هذه الطفرة تحققت نتيجة تغيير الهيكل الاقتصادي للصين, بحيث بقيت الملكية العامة في حدود30% من الاقتصاد القومي, و40% للملكية الجماعية و30% للمشروعات الاستثمارية والخاصة, مع إصلاحات جذرية للشركات والمصانع المملوكة للدولة في الآلات وأسلوب الإنتاج والإدارة وقواعد العمل. ولم تعد الشركات المملوكة للدولة معتمدة علي الدولة, ولكنها تتحمل الخسائر والأرباح, ويتم الاستغناء عن المشروعات غير القادرة علي الصمود.. ومن أسباب نجاح التجربة الصينية أيضا إقامة أسواق المال والتكنولوجيا والمعلومات والأراضي والمباني علي أسس حديثة, ودعم ذلك مجموعة قوانين واضحة ومتكاملة تحدد السياسات المالية والضريبية وسياسات توزيع الدخول علي أساس الكفاءة وليس الأقدمية, مع مرونة في نظام الأجور بحيث تختلف بحسب القدرات اللازمة لكل وظيفة, ومدي الجهد الذي يبذله الموظف أو العامل وعائد هذا الجهد, كما تختلف الأجور من منطقة لأخري.
لم تأخذ الصين بالنصائح الغربية بتحويل كل القطاع العام إلي القطاع الخاص, ولم تحاول تحقيق الإصلاح بالقفز في خطوة واحدة, ولكنها أخذت بمنهج الإصلاح والتقدم التدريجي, وبذلك تجنبت حدوث هزة لا تحتملها دولة بمساحة الصين وتعداد سكانها, وحققت المعادلة بين التغيير والاستقرار والقبول الاجتماعي لمتطلبات كل منهما, مع مراعاة أن يكون التغيير تغييرا استراتيجيا وشاملا يصل إلي تغيير بنية الإنتاج والملكية وإعادة بنائهما علي أسس جديدة, مع تركيز خاص علي وضع الأساس للتقدم في التكنولوجيا والأبحاث العلمية مع ما استلزمه ذلك من إعادة بناء مراكز ومؤسسات البحث العلمي, ونقل وابتكار التكنولوجيا الحديثة.
وبرغم تنفيذ السياسة السكانية الصارمة طفل واحد لكل أسرة, فإن تعداد الصين سوف يصل في عام2005 إلي مليار و330 مليونا, وهذا يفرض عليها زيادة معدلات التنمية بأكثر من المستوي الحالي7.8% الذي يعتبر معجزة بالمقاييس العالمية.
والسياسة الخارجية في الصين هدفها دعم سياسات التنمية وادماج الصين في العولمة, ولذلك لا تنحاز الصين إلي أي قوة, ولكنها تنحاز فقط لمصالحها وتحدد موقفها في كل حالة في ضوء هذه المصلحة, دون تأثر بالمشاعر أو العواطف, ودون الخضوع لأي ضغط خارجي..