حرية الإعلام ومسئولياته

مشكلة الإعلام فى مصر أنه لم يستطع أن يصل إلى الصيغة الصحيحة التى تجمع بين الحرية والمسئولية السياسية والأخلاقية والقانونية.. وذلك على الرغم من أن الحوار - والخلاف - قائم منذ عشرات السنين بحثا عن هذه الصيغة، ولا يزال القائمون على الإعلام يتخوفون من احتمال سيطرة السلطة وإحكام قبضتها للحد من ممارسات الإعلام لنقد الأوضاع والسياسات والقرارات الرسمية، ولا يزال المسئولون فى مختلف المجالات والمستويات يوجهون الاتهامات للإعلام ابتداء من تهمة الانفلات والفوضى وانتهاء بتهمة الانحراف والفساد، وبينهما عشرات الاتهامات من بينها الاتهام بالعمالة وخدمة مصالح أجنبية وتلقى أموال مشبوهة من الخارج.. وهكذا يظل الإعلام فى مصر فى حالة قلق وتوتر وترقب لما يمكن أن يفرض عليه فى الغد، وبالتحديد بعد انتخابات مجلس النواب القادمة حيث تكثر التكهنات والشائعات والمخاوف. ومشكلة الإعلام قديمة، منذ العهد الملكى قبل ثورة 23 يوليو 1952 وأدت إلى إصدار قانون بحظر نشر وإذاعة أخبار القصر إلا ما يصدر عن القصر رسميا، وقانون آخر يعتبر الأخبار والمقالات والتعليقات التى توصف بأنها العيب فى الذات الملكية جريمة جنائية عقوبتها الحبس والسجن.. وكان «البوليس السياسى» يراقب ويتعقب الصحفيين، وكانوا يتعرضون للاعتقال، مع أن هذه الفترة كما يردد البعض كانت الفترة «الليبرالية» التى تفتحت فيها الحريات.
وبعد ثورة 1952 ظلت الأزمة بين الإعلام والسلطة كما هى وربما أكثر حدة حتى أن جمال عبد الناصر أعلن أكثر من مرة أن الإعلام فى مصر لم يصل إلى «النغمة الصحيحة»، وكانت النتيجة مراقبة الصحفيين واعتقالهم وفصلهم من الصحف وإلحاقهم فى شركات الأحذية والأغذية وخلافة، وفى عهد أنور السادات حظيت الصحافة بسنوات من الحرية ثم ضاق الحكم بهذه الحرية وأعلن السادات أن الديمقراطية لها أنياب وأظافر وأنه سوف «يفرم» المارقين، وبعدأها بدأت المحاكمات والأحكام بالسجن.. وفى عهد مبارك عاش الإعلام فترة من الحرية ثم ضاق الحكم بهذه الحرية وبدأ يستخدم أسلحة مختلفة لحصار الأقلام والألسنة بالترغيب والتهديد أو بسياسة العصا والجزرة كما كان يقال، واليوم تبدو البوادر بأن القصة سوف تعود من جديد. والبداية على لسان جميع المسئولين وعلى جميع المستويات من أن الإعلام هو السبب فى المشاكل والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية بل الدولية وقائمة الاتهامات تطول كل أزمة وكل مشكلة حدثت وتحدث.. وأيضا حرصت اللجنة التأسيسية للدستور على رفض المطالب المتكررة بإلغاء عقوبة الحبس فى قضايا الرأى والنشر.
***
ومع ذلك فإن كل عصر يعلن المسئولون فيه عن أهمية حرية الإعلام وضرورتها، ويعلن أن الخلاف فقط حول مفهوم هذه الحرية وحدودها، ويضيف الخبراء إلى ذلك أن الإعلام فى مصر محتاج إلى أن يحذر من الوقوع تحت سيطرة النظام الإعلامى الغربى وهيمنة النظام الإعلامى الأمريكى بما فيه من سيطرة الطابع التجارى وخضوعه لآليات اقتصاد السوق، وإغراقه فى الإثارة والترفيه، وتقليد النظام الإعلامى الغربى يمكن أن يؤدى إلى تشوهات للثقافة الوطنية وللاستقلال الإعلامى. والخبراء يطالبون الإعلام بأن يحقق التوازن بين حرية الإعلام من ناحية وحقوق المجتمع والأفراد من ناحية أخرى، وبين الانفتاح على الإعلام الدولى من جانب والحفاظ على الاستقلال الإعلامى من جانب آخر، وفى النهاية فإن النظام الإعلامى لن يكون إلا إنعكاسا للنظام السياسى والاجتماعى ودرجة التطوير الحضارى لمجتمع وللنظام السياسى.
خبراء الإعلام يقسمون النظم الإعلامية إلى ثلاثة نظم. النظام الإعلامى السلطوى والإعلام فيه فى خدمة السلطة الحاكمة ويلتزم بتأييد كل ما يصدر عن السلطة والدفاع عن سياساتها ومن يخرج عن هذا الخط يخرج من العمل بالإعلام، والنظام الثانى هو النظام الإعلامى الحر الذى يقوم على حق المواطن فى المعرفة ولا يتحقق ذلك إلا بحرية الإعلام وعدم إلزامه بخط سياسى معين، وكل تجاوز من الإعلام يكون الحكم فيه للقضاء وحده، والأساس فى هذا النظام أن الحرية للإعلام مرتبطة بمسئولية اجتماعية لاتقبل الانفصال، أما النظرية الثالثة فهى النظام الإعلامى الاشتراكى الذى كان سائدا فى الاتحاد السوفيتى السابق ولم يكن إعلاما بالمعنى الدقيق ولكنه كان يعمل بمفهوم الإعانات والدعاية عن الحكومة والحزب.
والذين يدافعون عن نظام إعلامى من هذه النظم ويريدون تطبيقها يتجاهلون طبيعة المجتمع العربى وتكوينه وطبيعة وتكوين المجتمعات العربية عموما.. فهذه المجتمعات لها خصوصيتها وبالتالى لها احتياجات إعلامية تتفق مع ظروفها ومراحل تطورها، والإعلام فى مصر والعالم العربى محتاج إلى صياغة جديدة للعلاقة بينه وبين السلطة من ناحية والمجتمع من ناحية ثانية، والنظام الإعلامى العالمى الجديد من ناحية ثالثة، وأن يصل فى نفس الوقت إلى تحقيق الاستقلال والخروج من هيمنة النظام الإعلامى الغربى، وممارسة الحرية للمساهمة فى محاربة الفساد الذى يمثل السوس الذى يخنر فى جسد المجتمع المصرى، وفى توجيه الأنظار إلى السلبيات والأخطاء والانحرافات، وطرح أفكار وحلول لمواجهة المشكلات القائمة والمستجدة، وتنبيه الرأى العام والاستجابة له ليكون الإعلام هو الوسيلة التى تعكس اتجاهات الرأى العام بأمانة وصدق دون زيادة أو نقصان ودون تشويه أو تجميل.
***
هناك حقائق لا يمكن تجاهلها قبل مطالبة الإعلام بالقيام بدوره كاملا وأن يتحمل مسئوليته. الحقيقة الأولى هى أن يكون الوصول إلى الحقيقة متاحا أمام الإعلام، والمشكلة أن المسئولين عموما يخفون الكثير ولا يصرحون إلا بالقليل مما يضطر الإعلام إلى التحايل واللجوء إلى مصادر أخرى من خارج دائرة المسئولية وبذلك يقع فى المحظور وينشر أخبارا غير دقيقة أو غير صححية ودون ذكر المصدر الذى يشترط عدم الإشارة إليه، ولو كانت كل الحقائق متاحة، والوصول إلى المسئولين سهلاً للتأكد من صحة كل معلومة تصل إلى علم الصحفى فلن تتكرر الأخطاء التى يشكو منها المسئولون، وقد أثبتت التجربة أن تخصيص متحدث رسمى لكل جهة من جهات صناعة الأخبار والقرارات والسياسات يمكن أن تقضى على ظاهرة «الفبركة» الصحفية، أى صناعة خبر لا أساس له لمجرد الإثارة وبحثا عن الرواج والانتشار. ولكن مازالت التجربة فى بداياتها، والمتحدثون الرسميون لا يقدمون دائما الأخبار كاملة وأحيانا يعلنون أنهم ليست لديهم معلومات عن موضوعات مهمة، وأحيانا يتهربون من الاجابة عن اسئلة تدور فى الشارع.. واحيانا يكون المتحدث الرسمى بعيدا عن صناعة الإعلام وظروفه ومتطلباته، ومع الفرص المحددة أمام الإعلام للحصول على المعلومات فإن الجميع يطالبون الإعلام بأن يقدم تغطية كاملة ووافية لكل القضايا وكل الأخبار بموضوعية وهذه هى الأزمة التى يعانى منها الإعلام ويواجه بسببها الاتهامات من كل جانب، من السلطة ومن الجمهور.
والحقيقة الأكبر هى أن الإعلام لا يصنع الأزمات كما يقال ويشاع، ولكن الإعلام «مرآة» تعكس ما هو قائم وموجود فى المجتمع، فإذا كانت هناك أزمات فى المجتمع فهل يمكن مطالبة الإعلام بتجاهل هذه الأزمات، أو الكذب والادعاء بعدم وجود أزمات، أو تجميل الواقع والحديث عن الأزمات على أنها إنجازات.
والحديث يطول عن الإعلام وهمومه وطموحاته

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف