سؤال يحدد طريق السلام

خصصت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية افتتاحيتها أول نوفمبر الحالي لتحليل موقف حزب العمل وأسباب انسحابه من الحكومة بعد تسعة عشر شهرا من محاولات ـدون جدويـ لإعادة الاعتدال إلي السياسة الإسرائيلية في مواجهة جموح شارون في التركيز علي الاستيلاء علي الأراضي الفلسطينية وبناء مستوطنات جديدة عليها في الضفة وغزة‏.‏

وأشارت الصحيفة إلي أن عمليات التوغل والاحتلال والحشد العسكري التي نفذها شارون أدت إلي تأثير بالغ السوء علي اقتصاد إسرائيل‏,‏ وبدلا من معالجة الأزمة الاقتصادية تهدر حكومة شارون ملايين الدولارات لبناء المستوطنات‏,‏ وهي استراتيجية ليس وراءها غير العناد الذي يحكم تصرفات شارون‏,‏ لأن حكومته تعلم أن هذه الاستراتيجية‏,‏ بالإضافة إلي تأثيرها علي المجتمع الإسرائيلي الذي يحتاج إلي هذه الملايين لمشروعات الرعاية الاجتماعية التي تأثرت كثيرا‏,‏ وفوق ذلك فإن هذه المستوطنات تحقق شيئا واحدا هو وضع العراقيل أمام أي خطة سلام بحيث يصبح الوصول إلي السلام أمرا بالغ الصعوبة‏,‏ وهذا ما يريده شارون‏.‏


وشارون يتجاهل الحقائق ولا يري إلا ما يريد أن يراه‏,‏ فقد أظهر استطلاع للرأي نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية يوم‏25‏ أكتوبر الماضي أن‏78%‏ من الإسرائيليين يفضلون تفكيك معظم المستوطنات في إطار اتفاقية سلام مع الفلسطينيين‏,‏ بينما يظل شارون علي إصراره علي ترديد القول إن أي مستوطنة في قطاع غزة لا تقل أهمية عن تل أبيب‏!‏

ويقف شارون موقفا يختلف عن موقف الأغلبية الإسرائيلية‏,‏ ليس فقط بالنسبة لموضوع المستوطنات ولكن لإصراره علي اختزال القضية كلها في شيء واحد هو استمرار الإصلاحات في السلطة الفلسطينية بلا نهاية كشرط لقبول التفاوض‏,‏ ولا يريد أن يستمع إلي الرأي الذي لا يمانع في السير في المفاوضات في الوقت نفسه الذي تتم فيه هذه الإصلاحات‏.‏ وتري نيويورك تايمز أن استقالة وزراء حزب العمل سوف تكسب هذا الحزب مزيدا من المؤيدين من الإسرائيليين الذين يرون أن عنف شارون زاد عن حده‏,‏ ويبدو في تصاعد مستمر بلا نهاية‏,‏ ولا يحقق الأمن الذي وعدهم به طوال عامين من استخدام الدبابات والصواريخ والأباتشي والقناصة‏.‏


وتقول الصحيفة أيضا إن حزب العمل يكسب مزيدا من الأنصار لأنه يبدو أنه الحزب الذي يمكن أن يعيد العقل إلي السياسة الإسرائيلية‏,‏ خاصة بعد أن أعلن بن اليعازر أنه حان الوقت لإظهار أفق للحل السياسي للفلسطينيين‏,‏ وإذا كان شارون يشعل تيار التطرف ويؤجج الرغبة في التوسع ويداعب أحلام الإسرائيليين بالسيادة الإسرائيلية وبإسرائيل الكبري لكي يكسب شعبية في مواجهة مزايدات التطرف التي يقودها نيتانياهو‏,‏ بحيث تبدو الساحة السياسية من جانب حزب الليكود وكأنها سباق علي من هو الأكثر عنفا وتشددا‏,‏ لكن كل ذلك يمكن أن يتغير ـكما قالت نيويورك تايمزـ عندما يستعيد الإسرائيليون توازنهم‏,‏ ويتذكرون أنهم اختاروا شارون لأنه وعدهم بتحقيق الأمن وإحكام القبضة علي الفلسطينيين‏,‏ ولكنه لم يحقق الأمن‏,‏ وأدت إهاناته للرئيس الفلسطيني إلي ازدياد شعبية عرفات‏,‏ وشارون هو الذي جعل حزب العمل يكسب ورقة انتخابية بالتلويح باستعداده للسير علي طريق جديد مختلف عن طريق شارون‏,‏ تتراجع فيه قضية المستوطنات‏,‏ وتتقدم قضية تحقيق الأمن والسلام للإسرائيليين لكي يوفروا أموالهم الضائعة بلا جدوي في قتل الفلسطينيين‏.‏

هل يمكن القول ـبناء علي هذا التحليلـ باحتمال أن تسفر الانتخابات المبكرة في إسرائيل عن ظهور خريطة سياسية جديدة في إسرائيل؟ هذا سؤال لا تكفي معطيات الواقع الإسرائيلي الحالية للإجابة عنه بمثل الثقة التي أجابت بها نيويورك تايمز‏,‏ لأن زمام الأمور ليس في إسرائيل وحدها‏,‏ وليس بيد الإسرائيليين وحدهم‏,‏ ولكن هناك موقف الإدارة الأمريكية الذي يمثل عنصرا مؤثرا بدرجة كبيرة في تحديد السياسات الإسرائيلية‏.‏ والإدارة الأمريكية الحالية ـخاصة بعد أن سيطرت علي مجلسي الشيوخ والنواب بالأغلبية الجمهوريةـ كما عبر الكاتب الفرنسي إيمانويل تود الذي تربطه علاقات خاصة بالولايات المتحدة بقوله‏:‏ كنت دائما أحمل رؤية إيجابية للولايات المتحدة وكان من أبرز الأمور المسلم بها أن أمريكا قوة عقلانية‏,‏ ولكن الآن أري أن أمريكا ميالة للقتال بصورة تدعو إلي القلق‏,‏ وأري الإدارة الأمريكية في حالة هياج وانفعال شديدين‏.‏ وأصبحت تفرض الحصار علي دول لا تستطيع الدفاع عن نفسها‏,‏ وتستخدم التكنولوجيا الحديثة ضد المدنيين وضد جيوش مازالت تحارب بأسلحة القبائل القديمة‏.‏


والكتاب الأمريكيون والإسرائيليون هم الذين يتحدثون عن سياسات أمريكا وإسرائيل علي أنهما سياسة واحدة‏,‏ وعلي سبيل المثال فإن هنري سيجمان العضو البارز في مجلس العلاقات الأمريكية كتب في صحيفة هيرالد تريبيون يوم‏30‏ أكتوبر الماضي مقالا بعنوان خريطة بدون هدف قال فيه‏:‏ إن مناقشة خريطة الطريق الأمريكية لتحقيق السلام في الشرق الأوسط يجب أن تبدأ ببحث لماذا فشلت جميع المبادرات الأمريكية للسلام خلال السنوات الطويلة الماضية ابتداء من اتفاقات أوسلو حتي تقرير ميتشل‏,‏ وتفاهمات تينيت‏,‏ ومهمة زيني‏,‏ لماذا كل هذا الفشل مع أن اتفاقية أوسلو حددت خمس سنوات لتحقيق التسوية الشاملة وإقامة الدولة الفلسطينية‏,‏ ومرت السنوات الخمس منذ سنوات وسنوات‏..‏

وأعتقد أن الإدارة الأمريكية إذا كانت جادة في تنفيذ مشروع السلام الجديد فعليها أولا أن تجيب عن أسئلة الكاتب القرني‏:‏ إذا كانت الولايات المتحدة جادة فلماذا إذن فشلت جميع المبادرات والخطط الأمريكية علي مدي عشرين عاما؟

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف