ماذا يقولون .. و ماذا نقول؟
قول الأمريكيون عن أنفسهم ما لا نستطيع أن نقوله عنهم, لأننا إذا قلناه اتهمونا بأننا نكره أمريكا لأنها متقدمة وغنية وقوية وديمقراطية ونحن لسنا كذلك. ولكنهم عندما يكشفون الحقيقة الكامنة وراء هذا البريق فإنهم يعتبرون ذلك مظهرا من مظاهر الديمقراطية.
علي سبيل المثال فإن الولايات المتحدة تعطي نفسها الحق في إصدار تقرير بالحكم علي دول العالم بأنها مع أو ضد الحريات وحقوق الإنسان, ولكنها لا تصدر تقريرا رسميا عن الحريات الدينية والمدنية في أمريكا ذاتها, بينما اعترفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في افتتاحيتها ليوم11 سبتمبر الماضي تحت عنوان الحرب علي الحريات المدنية إن الحريات تعرضت لكثير من التقييد في الولايات المتحدة, ليس فقط باعتقال أعداد كبيرة من المسلمين دون إعلان أسمائهم أو إعطائهم حق الاستعانة بالمحامين وتقول نيويورك تايمز إن دستور الولايات المتحدة ليس ميثاقا يمكن تعطيله, وأن البلاد محتاجة أكثر من أي وقت مضي إلي الالتزام بالقانون واحترامه, وأن الاعتداء علي الحقوق الفردية الذي يحدث في إدارة بوش يدل علي أنه أخطأ في تعلم دروس التاريخ الأمريكي, ففي كل فترة من الفترات التي شعرت فيها الدولة بأنها مهددة, ولجأت إلي سياسة تضييق الخناق علي الحريات المدنية عادت بعد ذلك وشعرت بالندم وتمني الحكام لو أنهم لم يفعلوا ذلك, ففي فترات كان نقد الحكومة محظورا وفقا لقانون التحريض لعام1798 أو قانون مكافحة التجسس لعام1918 أو اعتقال اليابانيين ذوي الجنسية الأمريكية أثناء الحرب العالمية الثانية كما يحدث الآن بالنسبة للعرب والمسلمين الذين يحملون الجنسية الأمريكية, وقد عبر الجميع عن الندم عما حدث, وهكذا في كل مرة يكون فيها الأمريكيون خائفين, كما هم الآن منذ العام الماضي فإن الحريات المدنية تتحول إلي حقوق نظرية, بالرغم من أنها الشيء الذي تفاخر به أمريكا وتمتاز به عن غيرها من الدول, وتقييد الحريات المدنية بحجة أن أمريكا في حرب من أجل الدفاع عن ديمقراطيتها وحرياتها المدنية ويبدو هذا أمرا مثيرا للسخرية,
وقالت نيويورك تايمز إن إدارة بوش ألقت بالناس في السجون, ورفضت الإعلان عن أسماء المسجونين وأعدادهم, ولا يقل قبحا عن الاعتقالات السرية ما جري ويجري من محاكمات سرية لهؤلاء المعتقلين, ومنع الجمهور والصحافة من حضورالمحاكمات ودفاعها عن المحاكمات العسكرية التي كانت تستنكرها في الدول الأخري, وفي نوفمبر الماضي عندما أصدر الرئيس بوش لأول مرة القرار بتشكيل هذه المحاكم كان واضحا أن هذه الإدارة قررت محاكمة أي شخص تريد محاكمته بادعاء أن له صلة بالإرهاب وامتد ذلك حتي إلي مواطنين أمريكيين تم القبض عليهم وتقديمهم إلي محاكمات عسكرية, وعندما اشتد الغضب علي هذه الإجراءات تراجعت الإدارة الأمريكية خطوة بإعطاء هؤلاء المتهمين بعض الحقوق, ثم قررت محاكمة العديد من المشتبه فيهم في محاكم مدنية, وكشفت بعد ذلك وسط ضجة هائلة عن برنامج نظم المعلومات والوقاية من الإرهاب لتجنيد الأمريكيين للتجسس علي الأمريكيين أبناء وطنهم, وشمل التجنيد في البداية سعاة البريد, والعمال, وكل من تقتضي أعمالهم دخول البيوت, وعندما اشتدت الانتقادات والاحتجاجات تراجعت الإدارة عن هذا البرنامج, والرئيس بوش يستغل حالة الصراع لكي يأخذ بيده سلطات أكبر, ويسلب الكونجرس جانبا من سلطاته, ويثير الرئيس مشاعر الخوف لدي الشعب الأمريكي ليكون ذلك عنصر ضغط علي الكونجرس يجعله يبدو غير مهتم بأمن الشعب الأمريكي إذا حاول مناقشة الرئيس أو سعي إلي ممارسة حقوقه الدستورية في مواجهة الرئيس, وقد اتهم الرئيس بوش بالفعل الكونجرس بأنه لا يهتم بأمن الشعب الأمريكي مما جعل الكونجرس يتراجع عن موقفه الرافض لضرب العراق, ولا شك أن ذلك يجعل السلطة القضائية والشعب الأمريكي يشعرون بالقلق مما يحدث من سحق للحقوق والحريات المدنية. ونتيجة لذلك ظهر أخيرا عدد من القضاة كانت لديهم الشجاعة لإعلان أن الاعتقالات السرية لا تتفق مع مجتمع ديمقراطي, مثل القاضي جلاديز كيسلر القاضي بمحكمة واشنطن الذي أصدر حكما طالب فيه الحكومة بإعلان أسماء المعتقلين ولم تنفذ الحكومة الحكم, وكذلك أصدر القاضي روبرت دومار في محكمة نورفولك حكما طالب فيه الحكومة بتقديم الأدلة التي تستند إليها في الادعاء بأن المعتقلين مقاتلون في صفوف العدو, ولم تنفذ وزارة العدل هذا الحكم أيضا.
مع استمرار إدارة بوش في هذا الطريق يحتاج الشعب الأمريكي إلي إعلان أنهم لن يسمحوا بسلب حقوقهم وحرياتهم, وأن العالم تغير بعد11 سبتمبر ولكن القيم الأمريكية يجب ألا تتغير, وإذا كان ضروريا أن نحارب أعداء الحريات في الخارج فإنه من الضروري أيضا ألا نخضع لأعداء الحريات