محنة الثانوية العامة
سوف تبقي الثانوية العامة محنة في كل بيت مادام النظام الحالي للامتحان باقيا فالنظام قائم علي أن امتحان الثانوية العامة هو الذي يحدد مستقبل الطالب ومكانه في المجتمع, وهو امتحان الفرصة الواحدة, فإما أن يحقق أمل الشاب وأمل أسرته, وإما أن يفقد الأمل وإلي الأبد.
ولا يمكن تصور أن يكون مصير الإنسان متوقفا علي آدائه في ساعتين فقط, والتعليم في الدول المتقدمة لا يعرف مثل هذا الامتحان الذي ينزل علي الطالب وأسرته كالصاعقة, ونظم الامتحانات هناك قائمة علي قياس قدرة الطالب علي البحث والفهم, وأيضا علي أساس درجة نمو شخصيته ومشاركته بإيجابية في الأنشطة التي تنمي مواهبه وقدراته وتفاعله مع مجتمعه ومع الآخرين.. بينما الامتحان عندنا لا يقيس إلا شيئا واحدا هو ذاكرة الطالب وقدرته علي الحفظ, والنتيجة أننا نقتل ذكاء الطالب ومواهبه وشخصيته ولا تبقي إلا الذاكرة والقدرة علي الحفظ, دون أن نعوده علي مناقشة ما يدرسه, والتفاعل معه, والحوار مع المدرس لتنمية ملكة النقد.
باختصار نحن نقتل في شبابنا القدرة علي الابتكار ونضعهم في قوالب نمطية.
وهذا النظام لابد أن يوجد في المجتمع حالة من القلق والتوتر لها آثارها الاجتماعية والسياسية, ولابد أن يؤدي إلي تشجيع الدروس الخصوصية, ما دامت الأسرة في سباق محموم لإنقاذ ابنها من الضياع بسبب نسيان كلمة أو جملة, أو بسبب عدم الخبرة بنظام الامتحان والتصحيح والإجابات النموذجية النمطية التي يمكن أن تحصل علي الدرجة النهائية بطريقة ميكانيكية دون أن يفكر الطالب ودون أن يفكر المصحح؟
ويطرح وزير التربية والتعليم مشروعا جديدا لتطوير المرحلة الثانوية, يكون فيه قياس قدرات واستعدادات الطالب علي امتداد السنوات الثلاث, ومن خلال عشرات الامتحانات, فإذا لم يوفق في امتحان لسبب أو لآخر لا يفقد الأمل لأن أمامه الفرص كثيرة بعد لتعويضه ما يفقده, ووفقا لهذا المشروع فإن انتظام الطالب في الحضور, وإيجابيته في الفصل, ومشاركته في النشاط الثقافي والاجتماعي والفني, وعلاقاته مع زملائه ومدرسيه, واستعداده للبحث عن المعلومات من خارج الكتاب المقرر ورغبته في المزيد من المعرفة, كل ذلك يمكن قياسه أولا بأول علي مدي السنة الدراسية, ومن متوسط مجموع الدرجات في السنوات الثلاث تكون نتيجة الثانوية العامة, وتنتهي بذلك أزمة الامتحان الواحد, والشكوي من صعوبة الأسئلة أو أنها من خارج المقرر وغير ذلك من الحجج التي يرددها التلاميذ الفاشلون وتساندهم أسرهم ومدرسو الدروس الخصوصية عنها تخيب توقعاتهم, وبعض ذوي الصوت العالي, يتردد صوته في مجلس الشعب مطالب بعدم تطبيق القانون الذي يلزم الطالب بالحضور, ويطلب بمساواة المنتظمين في الدراسة بالمتهربين منها دون عذر مقبول أو غير مقبول, وبعض الصحف تثير الرأي العام كل سنة بنشر صور طالبات في حالة بكاء وانهيار لأن سؤالا جاء في الامتحان لم يكن متوقعا, وكأن المفروض أن تلبي الامتحانات توقعات التلاميذ ومدرسي الدروس الخصوصية.
ومن غرائب الثانوية العامة أن كل الأسر تشكو أعباء الدروس الخصوصية وتطالب الوزارة بمحاربتها, وحين تحارب الوزارة الدروس الخصوصية( يهاجم أولياء الأمور الوزارة ويتهمونها بأنها تحرم أبناءهم من فرصة النجاح.. ومهما قيل عن الدروس الخصوصية ومهما عملت الوزارة علي التضييق علي المدرسين, فسوف تستمر الدروس الخصوصية, لأن أولياء الأمور والطلبة هم الذين يوجدون سوق الدروس الخصوصية, وبزيادة الطلب تزداد الأسعار وتزداد شكوي الآباء وفي نفس الوقت يزداد تكالبهم علي الدروس الخصوصية علي أنها طوق النجاة الوحيد وبغيرها سوف يغرق الإبن في بحر بلا قرار اسمه الثانوية العامة..!
ومشكلة الدروس الخصوصية مشكلة متعددة الأطراف.. الوزارة أحد هذه الأطراف, والتلميذ هو الطرف الثاني, والأسرة هي الطرف الثالث, والطرف الرابع هو المدرس الذي يسعي إلي استغلال قلق الأسرة والطالب لكي يحقق ثروة بطريق غير مشروع, ولا يمكن حل المشكلة من طرف واحد, ولابد أن يأتي الحل من كل الأطراف صانعة المشكلة. والمشروع المطروح للحوار لتطوير نظام الثانوية العامة يمكن أن يكون هو الحل, ومن الضروري أن يشارك كل من له رأي في هدا الحوار, وطبعا لن يتم تنفيذه إلابعد سنوات من الإعداد, وسيحتاج إلي تطوير في أسلوبه التدريس, وفي أوضاع المدرسين وتدريبهم ورفع مستواهم, وفي توفير مقومات التعليم الجيد, في المدرسة..
المهم أن نرفع عن كاهل الأسرة المصرية وأبنائها هذه المحنة السنوية التي تصل بالمجتمع إلي درجة الغليان وتصل بالأبناء إلي نقطة قريبة من الانفجار, والأمر لا يستحق كل ذلك.