مسئولية أمريكا
مهما يكن في خطة بوش من سلبيات ومهما يقال من أنها محاولة لوقف الانتفاضة بإعطاء الفلسطينيين أملا وشغلهم بقضايا الإصلاح والانتخابات وما ينشأ عن ذلك من صراعات داخلية.. فإن هذه المبادرة تدل علي تغير في مواقف الإدارة الأمريكية.. فقد بدأت إدارة بوش بإعلان التنصل من مسئولية الشريك في عملية السلام, وها هي قد أدركت استحالة أن تكون أمريكا قائدا للنظام العالمي الجديد دون أن تتحمل التزامات ومسئوليات القيادة, ولا يمكن أن تكون صديقا للعرب ولا تفعل شيئا لإثبات جدية وجدوي هذه الصداقة, كما لا يمكن أن تكون لها مصالح لدي العرب ولا تعمل علي حماية هذه المصالح علي المدي القريب والبعيد علي الأقل بالاهتمام بحقوقهم العادلة ولو بمواقف تكتيكية تنزع فتيل الغضب من نفوسهم.
وإذا كان الرئيس الأمريكي يريد حقا تسوية عادلة تحقق الأمن لكل الأطراف وتنهي الصراع في الشرق الأوسط فإنه يستطيع ذلك. والعالم كله يعلم ذلك وهذا هو رأي وزير الخارجية الفرنسي السابق هوبير فيدرين الذي شارك في مفاوضات البحث عن تحقيق السلام حتي مايو الماضي, وكتب مقالا في واشنطن بوست بعنوان أمريكا يمكنها فرض السلام في الشرق الأوسط وقال فيه: لا يوجد أحد سوي رئيس الولايات المتحدة يملك السلطة والوسائل اللازمة لفرض السلام, وإذا أخذ القيادة فإن العالم بأكمله سوف يسانده, وربما يجد معارضة من جبهة المحافظين الأمريكيين ومن الجناح اليميني الإسرائيلي ومن بعض الفصائل الفلسطينية المتشددة, ولكنه سوف يجد التأييد القوي الذي يجعله ينتصر علي الرافضين للسلام.
ويقول فيدرين: إنه توصل إلي هذا الاستنتاج بعد مراجعة كل الاقتراحات التي طرحت للتسوية وأسباب فشلها, بما في ذلك اقتراحات ومبادرات كان يؤيدها باعتباره وزير خارجية فرنسا, وهو الآن علي يقين من أنه إذا استجاب الرئيس الأمريكي للمتشددين والمتطرفين وأعطاهم الفرصة ليفرضوا سياستهم علي العالم, فإن مشكلة الشرق الأوسط لن تتم تسويتها أبدا, ولن تنعم إسرائيل بالأمن أبدا, ولن يستطيع أي قائد فلسطيني احتواء غضب شعبه اليائس أبدا, وستبقي المنطقة مشتعلة, ولن يدوم أي ائتلاف معاد للإرهاب, وسوف تتحقق رغبة الذين يعملون علي إشعال صدام الحضارات.
وخلاصة تجربة فيدرين من موقع وزير خارجية فرنسا لسنوات طويلة أن العقلاء في العالم يعلمون خطأ سياسة قمع التطلعات الوطنية للشعب الفلسطيني بدعوي محاربة الإرهاب, وخطأ سياسة التأجيل الدائم للعودة إلي التفاوض الجاد, وليس لذلك من نتيجة إلا زيادة تعقيد المشكلة, وسقوط مزيد من الضحايا.
ويقول السياسي الفرنسي الذي يعرف خفايا ما جري في كواليس الدول الكبري أن سياسة اختيار كبش فداء في كل مرحلة, أو الادعاء باستحالة الحل لأن الجانبين لا يثق أحدهما: في بالآخر, هي سياسة تقود إلي طريق مسدود ولابد من إيجاد حل للخروج من المأزق الحالي, وتحديد الهدف ليس صعبا, فالهدف هو إقامة دولة فلسطينية تتمتع بمقومات الحياة كدولة علي أساس الإطار الذي سبق التوصل إليه في مباحثات شرم الشيخ وطابا, وبالأهميةة نفسها فليس مستحيلا الاتفاق علي ترتيبات أمنية واقتصادية تكفل التعايش السلمي بين الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية وتحقق الاستقرار الإقليمي. وإذا التزم الرئيس الأمريكي بهذا الخط المستقيم الواضح فسوف يجد المساندة من أوروبا والدول العربية والإسلامية ومن روسيا والأمم المتحدة, وسوف يساعده الجميع دون تردد, وسوف يحظي بشعبية لا مثيل لها في العالم العربي ويسانده الجميع بقوة في الحرب علي الإرهاب.
وفي رأي فيدرين أن نجاح بوش في تحقيق السلام والعدل ليس أمامه إلا القبول بوجود قوات أمريكية مع قوات دول أخري علي طول الحدود بين إسرائيل وفلسطين والأردن وسوريا ولبنان, وأن يكون مستعدا للوقوف بحسم في وجه المعارضة من اليمين الإسرائيلي وحلفائه في الولايات المتحدة, وتكون لديه الشجاعة لوضع خطة السلام موضع التنفيذ وفي جدول زمني وموعد نهائي لإقامة الدولة الفلسطينية.
ويتوقف كل ذلك علي مدي قدرة الرئيس الأمريكي علي عدم الخضوع للمحافظين والأمريكيين والإسرائيليين والقياديين بينها تطابق كامل, حتي يصعب معرفة من الذي يضغط علي من, ومن الذي يؤثر في من.. أمريكا أم إسرائيل, ولكن إذا صمدت القيادة الأمريكية بحزم فإن الرأي العام في إسرائيل وفي أمريكا سوف يتفهم, وربما يؤدي ذلك إلي انتخابات جديدة في إسرائيل تأتي بأغلبية معتدلة مستعدة لقبول السلام.
السؤال: هل يريد بوش تحقيق سلام عادل؟.. وهل يقدر علي مواجهة التيار اليميني المتشدد في الولايات المتحدة وإسرائيل؟.. وهل الإدارة الحالية مستعدة لتحمل مسئوليات والتزامات قيادة النظام العالمي..؟