الفساد فى عش الدبابير

يبدو أن المعركة ضد الفساد ليست سهلة بدليل أن قاضيا مشهودا له بالكفاءة والنزاهة مثل المستشار هشام جنينة خرج عن صمته ليعلن بعد اكثر من رئاسة الجهاز المركزى للمحاسبات أنه وجد الفساد كلأخطبوط له مائة ذراع وأنه يواجه بمقاومة كبيرة من منظومة الفساد تعطل محاولات الإصلاح ولفساد متغلغل فى كل مكان فى مصر تقريبا واقتلاع الجذور أمر سهلا.
ولأن الرجل واضح وصريح ولا يعرف الألاعيب السياسية فقد أعلن فى حديثه إلى «الأهرام» منذ أيام مجموعة من الحقائق المؤلمة التى يجب أن نعتبرها جرس إنذار وتحذير من أن الجهاز للمحاسبات مهمته أن يكتشف الفساد ولكنه لن يستطيع وحده القضاء عليه، ويجب أن يكون القضاء على الفساد مهمة قومية تشارك فيها جميع أجهزة الرقابة والتحقيق والمحاسبة من هذه الحقائق مثلا ما يلى: إن منظومة النقل الجوى تعانى فسادا شديدا قد يؤدى إلى تكرار الكوارث الشبيهة بكارثة غرق العبارة السلام ومن قبلها غرق العبارة سالم اكسبريس وقد راحت أرواح أكثر من الفساد وخمسمائة إنسان ضحية الحادثين.
والمفاجأة المذهلة التى فجرها المستشار هشام جنينة هى أن ما لديه من معلومات تشير بوضوح إلى أن غرق العبارتين لم يكن نتيجة إهمال ولكنه كان جريمة لأنه كان بسبب أخطاء جسيمة تمثل جريمة متعمدة فقد تم اكتشاف لأنه كانت بسبب استهانة بأروارح المصريين إلى حد التراخى فى التعامل مع الاستغاثة التى صدرت من العبارتين وعدم التحرك الفورى لإنقاذ الضحايا.. مثل هذا الكلام يعيد فتح ملف قضية العبارتين ويؤدى إلى إعادة المحاكمة لظهور وقائع وأدلة جديدة لم تكن امام المحكمة التى نظرت كلا من القضيتين ويترتب على ذلك إعادة العرض على القضاء لتقدير التعويضات.
ويفجر المستشار هشام جنينة مفاجأة أخرى حيث يعلن أن قضايا الفساد داخل التعليم العالى وفى المدن والمستشفيات الجامعية وأيضًا فى وزارة الرى سوف تعلن قريبا وتحال إلى النيابة العامة.
???
القنبلة الثالثة التى فجرها المستشار هشام جنينة هى أن التعديات على أراضى طرح النهر شملت امتداد المسافة من أسوان إلى الإسكندرية وأن هذه التعديات فاقت كل تصور ومن المؤلم أن الاعتداء على القانون وعلى أراضى الدولة جاء من جهات سيادية ومن أشخاص لهم مكانة فى جهات مسئولة عن الرقابة والحماية وتطبيق القانون.. ولابد أن يصاب بالذهول كل من يعرف من المستشار هشام جنينة أن هذه التعديات تزيد قيمتها على 16 مليار جنيه.. اليس هذا هو الحرام بعينه..
ومما يؤدى إلى الدهشة ما أعلنه المستشار هشام جنينة من أن القانون لا يسمح لجهاز المحاسبات بمراقبة الجمعيات التى لاتتلقى إعانات من الدولة ولذلك بأن الحركات والجماعات مثل جماعة الإخوان المسلمين والحركات التى تملأ الساحة الآن لا تخضع لرقابة الجهاز المركزى للمحاسبات ولا أحد يحاسبها عن مصدر تمويلها وأوجه إنفاق هذه الأموال وسيظل الوضع مستمرا إلى أن يعدل القانون لكى يتمكن الجهاز من ممارسة عملة بالنسبة لجماعة الإخوان والسلفيين والكنيسة مع ملاحظة أن الأزهر يخضع لرقابة الجهاز.. ولكى تكون الدولة دولة قانون فعلا يجب أن تكون كل الجهات خاضعة للرقابة والمحاسبة ولا تكون فيها كيانات فوق القانون.. وما يطالب به المستشار هشام جنينة هو أن يخضع كل فرد وكل جهة فى مصر للقانون.. فلماذا لا يحدث ذلك وبدون إبطاء؟
???
يفجر المستشار هشام جنينة قضية الصناديق الخاصة التى تضيع على الدولة من خلالها مبالغ بمليارات الجنيهات ويطالب بضم هذه الصناديق إلى الموازنة العامة التى تخضع للرقابة من جهته، وتعوض جانبا كبيرا جدا من العجز وفى ميزانية الدولة. لايمكن أن يصدق إنسان أن الدولة بجلال قدرها لا تعرف عدد هذه الصناديق، وأنه ليس لدى أجهزة الدولة إلا الأرقام التى أعلنها البنك المركزى أن عدد هذه الصناديق يزيد على 6300 صندوق والبنك المركزى لا يرصد كل أعداد الصناديق الخاصة فى مصر وهذا الرقم هو عن عدد الصناديق الخاصة للبنوك التجارية التابعة للبنك المركزى أما البنوك التى لا تخضع للبنك المركزى فلا أحد يعرف كم عدد الصناديق الخاصة بها، هناك آلاف الصناديق بعيدة عن عيون أجهزة الدولة.. أليست مأساة وفوضى لا تحدث إلا فى ظل الفساد الذى يكون أقوى من الدولة وأقوى من القانون واقوى من أجهزة الرقابة.
غريب جدا أن يقول رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات إنه يعمل فى عش الدبابير لأنه يسعى إلى اقتحام الأماكن التى كان محظورا دخولها على الأجهزة الرقابية وبعض هذه الماكن كانت تعتبر نفسها دولة مستقلة داخل الدولة وليست خاضعة لأية رقابة أو محاسبة. ولأول مرة يعترف رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات بأنه يحارب الفساد داخل الجهاز المركزى للمحاسبات نفسه، وهو لا يثنى رئاسة الدولة ويؤكد لأنه سيرصد مدى قانونية العرف فيها وأنه بدأ بالقصور الرئاسية ووجد أنه أنفق فيها مايزيد على مليار ومائتى مليون جنيه.
???
اعتقد أن حديث رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات يمثل إعلان حرب على الفساد ولأنى اثق فى كفاءة وشجاعة ونزاهة المستشار هشام جنينة وأعرف تاريخه المشرف فى القضاء فإنى أصدقه ولدى أمل كبير فى أن يتمكن من دخول عش الدبابير ويحقق مطلب الشعب فى تنظيف البيت المصرى من الفساد والفاسدين والمفسدين.
فقد يساعد ذلك على تنمية ثقافة التمسك بالحق لدى المواطنين بدلا من شيوع اليأس من الحصول على الحق.
ويجب أن تتغير الأحوال فى مصر تحصل على تقدير متأخر جدا فى تقدير مؤسسة النزاهة العالمية. وأكد هذا التقرير الدولى أكثر من مرة أن مصر فى حاجة إلى الإسراع تطوير الجهاز الإدارى للدولة، وإلى إصلاح تشريعى شامل وإلى تطوير أساليب الخدمات للمواطنين، والأهم من ذلك تأكيد الرقابة الشعبية على جميع المواقع والجماعات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، ووضع نظام جاد لتلقى شكاوى المواطنين من الإهمال والتسويف فى إنهاء مصالحهم للضغط عليهم لتقديم الرشاوى. ولو أن أجهزة الرقابة والتحقيق اهتمت بما ينشر فى الصحف وأجهزة الإعلام عن وقائع الفساد لكان ذلك رادعا للمنحرفين وليس خافيا على احد أن هناك جهات لا يصل المواطن إلى حقه فيها إلا بعد أن يدفع رشوة صغيرة أو كبيرة بحسب التسعيرة شبه الرسمية لكل خدمة ولكل مستوى من مستويات الوظائف، ولا يخفى انتشار الواسطة والمحوسبية فى كل من المواقع بدون ضابط.
فى الدولة التى تحارب الفساد قوانين صارمة حتى أننى رأيت فى إحدى زياراتى إلى الصين مسئولا بدرجة نائب وزير محكوم عليه بالإعدام فى قضية رشوة، وفى الدول المتقدمة تساعد حرية الإعلام وسهولة حصولها على المعلومات الصحيحة على كشف الفساد وكل يوم نقرأ عن إحالة وزير أو رئيس أو حتى رئيس دولة للمحاكمة.. حدث ذلك فى المانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة، وإسرائيل، وإيطاليا، مما يعنى أن الفساد فى كل البلاد حقيقة ولكن المحاكمة والعقاب تتم فى كل البلاد دون تحايل أو تكتم لحماية المفسدين ومعاقبة كل من يساعد على عرقلة العدالة والتحقيقات ويخفى معلومات عن جرائم الفساد وما أكثر ما يحدث ذلك لأسباب كثيرة.
وبعد أن نص الدستور لأول مرة على استقلال الجهاز المركزى للمحاسبات وعدم خضوعه للتوجيهات أو التبعية لأى جهة فى الدولة يبقى تطوير قانون الجهاز لمنحه حرية الحركة والحق فى توجيه الاتهام، وأصدر قانون حماية الشهود لكى يطمئن الشاهد وهو يدلى بشهادته عن وقائع الفساد.
وفى النهاية فإن القضاء على الفساد يـتـوقـف أولا وأخـيرا عــلى الإدارة السياسية.

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف