يقظة ضمير

يبدو أن يقظة الضمير قد بدأت تظهر علي بعض المفكرين والكتاب في الولايات المتحدة‏,‏ مما يؤكد صحة ما كان يقال من أنك تستطيع أن تكذب علي بعض الناس كل الوقت‏,‏ وتستطيع أن تكذب علي كل الناس بعض الوقت‏,‏ ولكنك لن تستطيع أن تكذب علي كل الناس كل الوقت‏.‏

والمثال علي ذلك نيكولاس كريستوف في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية‏,‏ الذي ظل يهاجم ياسر عرفات والسلطة الفلسطينية‏,‏ ويكرر في مقالاته أن عرفات ضيع أكبر فرصة للسلام وإقامة الدولة الفلسطينية‏,‏ حين رفض اتفاقيات السلام السخية جدا التي عرضها عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ايهود باراك‏,‏ والرئيس الأمريكي السابق كلينتون في كامب ديفيد في يوليو عام‏2000,‏ وكان يردد أن ما كان مطروحا في كامب ديفيد كان حلا تاريخيا يحقق كل أحلام الفلسطينيين‏,‏ وان عرفات لم يقدره حق قدره‏,‏ لأن تنازلات باراك وصلت الي حد السماح بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس‏,‏ مقابل التنازلات عن‏9%‏ فقط من الضفة الغربية لإسرائيل‏,‏ وقبول أن تظل الدولة الفلسطينية تعاني نقص المياه والأراضي الزراعية الجيدة‏,‏ والرضا بوجود مستوطنات يهودية داخل أراضي الدولة الفلسطينية‏,‏ والتوسعات في بناء المستوطنات الإسرائيلية في شرق القدس‏.!‏


ظل نيكولاس كريستوف يكرر هذه الأقوال كما يفعل معظم المعلقين والكتاب في الصحافة والتليفزيون في أمريكا‏,‏ وكأنها معزوفة واحدة سبق توزيع النوتة الموسيقية علي الجميع من جهة ما‏,‏ ولكنه منذ أيام أراد فيما يبدو أن يعتذر عن الكذب الذي ظل يروج له‏,‏ فقال إن كلينتون هو الذي روج لهذا الادعاء بأن فشل كامب ديفيد كان غلطة عرفات وعليه وحده تقع مسئولية هذا الفشل‏,‏ ولكن تبين بعد ذلك أن كلينتون كرر ذلك علانية لأنه كان يريد مساندة باراك في الانتخابات وتبرئته من فشل كامب ديفيد‏,‏ بإلقاء اللوم كله علي عرفات‏.‏

والدليل علي صحة هذا التفسير‏,‏ أن يوسي بيلين المفاوض الإسرائيلي السابق قال بنفسه إنه من الخطأ إلقاء اللوم علي عرفات‏,‏ ليس فقط لأنه لا يستحق ذلك‏,‏ فربما يستحق جانبا منه‏,‏ وربما يكون صحيحا أن الفلسطينيين لا يقدمون أفكارا ومبادرات‏,‏ ولكن إلقاء اللوم علي جانب واحد خطأ تكتيكي‏.‏


ويقول نيكولاس كريستوف إن عرفات كان محقا في رفضه‏,‏ إذ عاد الإسرائيليون والأمريكيون ليعرضوا أفكارا أفضل في أواخر ديسمبر‏,‏ حين عرض كلينتون خطة سلام كانت ستمنح الفلسطينيين دولة تضم غزة‏(‏ بعد مقايضة الأرض‏)‏ ونحو‏97%‏ من الضفة‏,‏ وكانت لعرفات تحفظات علي بعض النقاط‏,‏ ولكن شاع بعد ذلك أن الفلسطينيين يرفضون هذا المشروع‏,‏ وأنهم يرفضون أي حل سلمي يشمل إقامة دولتين‏,‏ ويقول كريستوف‏:‏ لقد كان ذلك حكما خاطئا وظالما‏,‏ لأن شلومو بن عامي وزير خارجية إسرائيل وقتذاك قابل عرفات في القاهرة‏,‏ وقال إن عرفات لم يعترض علي مجمل خطة كلينتون ولكنه أيضا لم يقبلها كما هي‏,‏ وطلب بعض تعديلات‏,‏ وفي محادثات طابا حدث تقدم كبير حتي إن طائرة هليكوبتر إسرائيلية كانت علي استعداد لنقل المفاوضين الفلسطينيين الي غزة في حالة الوصول الي اتفاق‏,‏ وقال صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين كنا علي وشك التوصل الي اتفاقية‏,‏ وقال دبلوماسي أوروبي كان في المباحثات لقد تم بحث كل شيء ابتداء من الأرض وحتي مشكلة اللاجئين‏,‏ وقال عرفات بنفسه إن التقدم كان قد تحقق في مباحثات طابا‏,‏ وأشار الي البيان المشترك في‏27‏ يناير‏2001‏ عندما توقفت المفاوضات بسبب الانتخابات الإسرائيلية‏,‏ وجاء في البيان‏:‏ ان النقاط المتبقية يمكن تخطيها بعد الانتخابات‏.‏

يقول نيكولاس كريستوف في النهاية‏:‏ من العدل عدم المغالطة‏,‏ وعدم ترويج القول إن عرفات هو الذي رفض اتفاقية سلام معقولة‏,‏ لأن هذا القول ليس إلا خرافة‏.‏

وهكذا تظهر الحقيقة‏,‏ ولو بعد حين‏,‏ علي لسان أمريكي مطلع‏,‏ لنعرف أن الأمريكيين يكذبون حين يقولون إن ما عرض علي عرفات كان حلا تاريخيا وفرصة العمر‏,‏ والحقيقة أنهم عرضوا عليه في كامب ديفيد التنازل عن القدس والإقرار بسيادة إسرائيل علي المسجد الأقصي‏,‏ وهذا هو المستحيل بالنسبة لعرفات ولأي زعيم عربي‏,‏ الآن وغدا والي الأبد‏..‏

والآن نعرف أن كلينتون هو الذي كتب النوتة الموسيقية لهذه المعزوفة الكاذبة التي رقص علي أنغامها الجميع في أمريكا وإسرائيل‏,‏ وأن تظهر الحقيقة متأخرة أفضل من ألا تظهر أبدا‏,‏ علي الأقل لنتأكد من صدق المثل العربي إن الكذب ليس له رجلان‏.!


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف