حدود القوة
في الأيام الماضية نشرت الصحف الأمريكية مقالات متتالية تحذر إسرائيل والإدارة الأمريكية من الاستمرار في سياسة استخدام القوة لكسر إرادة الشعب الفلسطيني, وتتحدث هذه المقالات عن حدود القوة كمبدأ من المبادئ الأساسية في السياسة والاستراتيجية.
والمبدأ أن القوة وحدها, مهما تبلغ من الشدة والعنف لا تحل الصراعات السياسية, وغاية ما تحققه أن تقلل مستوي الطموح والتطلعات لدي أحد أطراف الصراع, ولكن الإفراط في استخدام القوة يؤدي إلي تحويل الصراع إلي صراع مزمن يهدأ في وقت ويتفجر فجأة في أي وقت. ويحول الصراع المعلن إلي صراع سري تحت الأرض, ويستقطب عناصر جديدة غير معروفة ويصعب التنبؤ بما يمكن أن يفعله الشباب والأطفال ـوربما النساءـ الفلسطينيون من الأجيال الجديدة بعد أن ذاقوا مرارة الموت والتشرد وفقدان الأمل.
كانت افتتاحية نيويورك تايمز أول هذا الشهر بعنوان حدود القوة تتحدث عن الآثار البعيدة المدي لسياسات القوة التي يجب أن تضعها الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية في حسابها.. وتقول إن الأعمال العسكرية الإسرائيلية بدافع الغضب أو الانتقام أو استعراض القوة, أو فرض الإرادة, لن تحقق الأمن لشعب يريد الأمن. وعلي إسرائيل أن تفكر فيما هو أعمق وأبعد من مجرد الاندفاع والانفعال العسكري, بأن تسعي للتوصل إلي حل سياسي لهذا الصراع الذي تسببت سياسات الحكومة الإسرائيلية في زيادة درجة التعقيد بتحويله إلي حرب كما أعلنت.. ومهما تحشد إسرائيل من دبابات فليس أمامها في نهاية الأمر إلا القبول بالحل المطروح عليها من الدول العربية جميعها وهو الانسحاب من الأراضي المحتلة وإقامة دولة فلسطينية مقابل الأمن والعلاقات الطبيعية بين إسرائيل وجيرانها العرب.. ولن يكون أمام إسرائيل اليوم أو غدا مخرج من الأزمة التي تعيش فيها الآن غير هذا الحل..
ولابد أن يكون في إسرائيل عقلاء أدركوا من تصاعد المذابح الإسرائيلية خلال18 شهرا أن ذلك لم يحقق الأمن ولا القضاء علي المقاومة الفلسطينية, ولكنه دفع إلي صراع شباب لم يسبق له الانخراط في منظمات فدائية ليحول جسمه إلي قذيفة متفجرة ليعلن رفضه للاحتلال.. لم ينجح شارون إلا في زيادة لهيب الغضب في الشعب الفلسطيني ويعمق في الأطفال والنساء والشيوخ ـفضلا عن الشبابـ الإحساس بالمهانة والظلم والرغبة في الثأر للآباء والأمهات والأبناء الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي.
وفي الولايات المتحدة, وفي إسرائيل أيضا, أصوات عاقلة, تنبه إلي أن الأمن لإسرائيل لا يمكن تحقيقه منفصلا عن الأرض والدولة للفلسطينيين.. إسرائيل تحتاج إلي الأمن, والفلسطينيون يحتاجون إلي أرضهم ودولتهم, ودون حل طرفي هذه المعادلة لن يتحقق الأمن أو السلام علي المدي البعيد.. وإسرائيل تتحدي منطق العدل وتحاول أن تفرض منطق القوة.. وتسعي إلي استفزاز الشعب الفلسطيني بالحصار والحرمان من أساسيات الحياة علي أمل أن ينتهي بهم الأمر بالهجرة من وطنهم أو بالاستسلام لما تفرضه عليهم إسرائيل.. وتزيد الاستفزاز بغرس200 ألف مستوطن في الضفة و20 ألفا في غزة وسط الشعب الفلسطيني وعلي أرضه.. وهي تدرك أن هذا الاستفزاز دعوة إلي استمرار التوتر وتهديد الأمن للطرفين.. علي الرغم من أن إقامة وحماية هذه المستوطنات تكلف إسرائيل مئات الملايين من الدولارات وإذا نقلتها إلي داخل إسرائيل فسوف توفر لهؤلاء المستوطنين الأمن, وتزيل أسباب التوتر عند الفلسطينيين, وتوفر الأموال التي تحصل عليها من الولايات المتحدة والمنظمات اليهودية في أمريكا وأوروبا وتنفقها في بناء الحوائط المرتفعة وتسليح المستوطنين وحشد القوات طول الوقت للحماية.
وإسرائيل تطالب الفلسطينيين بوقف أعمال المقاومة للاحتلال وتسميها إرهابا, دون أن تقدم للفلسطينيين مقابل ذلك شيئا يعيد إليهم الأمل, فهي إذن تريد مكافأة للإرهاب الذي تمارسه هي بقواتها المسلحة بأحدث الأسلحة الأمريكية التي تضرب شعبا لا يملك في أحسن الأحوال سوي أسلحة محدودة ومتخلقة ومصنعة يدويا بوسائل بدائية كما قالت نيويورك تايمز, تريد إسرائيل مكافأة إرهاب الدولة الذي تمارسه بعنف لم يسبق له مثيل.
والدرس الأول الذي يجب أن يتعلمه قادة إسرائيل أن القوة لها حدود, ولا تحل الصراعات, وأن إرادة وروح الشعوب لا تموت بالصواريخ والدبابات, والتاريخ مليء بقصص عن دول وامبراطوريات اعتمدت علي القوة وحدها لاغتصاب حقوق الآخرين, وفرض إرادتها وكسر إرادة الآخرين.. وبعد أن وصلت إلي قمة الصعود بدأت في الانهيار وأصبحت عبرة لمن يعتبر.