المستقبل فى مجلس الشورى
انشغل مجلس الشوري في الفترة الأخيرة بقضايا المستقبل, وخصص جلسات عديدة ناقش فيها كل الأفكار والتصورات التي يمكن وضع للاصلاح الشامل والتحديث.
وقيمة التقرير الذي انتهي المجلس إليه من حصيلة هذه الحوارات والمناقشات, أنه يمثل فكر الصفوة من العلماء والمفكرين والمتخصصين, وهذا يدعونا إلي المطالبة بطرح هذا التقرير علي الرأي العام علي أوسع نطاق, في التليفزيون, والمدارس, والجامعات, والأندية, وفي المجالس القومية المتخصصة ومراكز البحوث, لتعميق الإحساس في جميع قطاعات المجتمع بضرورة التفكير والعمل للمستقبل, بدلا من التوقف عند الماضي, أو الاكتفاء بحل المشكلات الوقتية للحاضر.. لأن ما ينقصنا حقيقة هو الانشغال بالمستقبل والإعداد له بجدية, علي يقين بأنه مقبل, وأن هناك أجيالا سوف تحاسبنا علي ما فعلناه من أجلها, ليس في مجال واحد, بل في جميع المجالات, ولا يخفي علي أحد طبيعة المخاطر الحالية والمحتملة التي تفرزها التطورات الدولية والإقليمية من حولنا, كما لا يخفي أن الدول كلها تسارع الخطي للتحديث والتجديد والتطوير, بما في ذلك الدول المتقدمة نفسها, ففي أمريكا يتحدثون عن أمريكا جديدة وفي الصين يتحدثون عن تحديث الصين, وفي ماليزيا يتحدثون عن القفزة الجديدة إلي العولمة, وهكذا.. وسوف نخطيء كثيرا إذا تصورنا أن الانشغال بالمستقبل ليس إلا
حديث المثقفين أو شعارات تعبر عن الطموح والمثالية, أو قضية ليس هذا وقتها, والأجدي أن نتفرغ كلية للحاضر وفيه من المشكلات والصعوبات ما يكفي.
والفرق الآن بين دولة ودولة هو ما لديها من خطط وما تنفذه من أعمال للمستقبل, وبالنسبة للعالم العربي فإن الوصول إلي ذلك يقتضي عملا شاقا لتغيير العقلية السلفية المولعة بتمجيد الماضي والوقوف عنده سيكولوجيا وعقليا, والرغبة في إعادة الماضي كما كان ليصبح هو المستقبل, وهذا هو المستحيل, لأن الماضي لايمكن أن يعود, والويل للشعوب التي سيفاجئها المستقبل دون أن تكون مستعدة له.
وتقرير مجلس الشوري يضع التصور أو الإطار العام للمستقبل الذي يجب أن نعمل له منذ اللحظة الحاضرة.. لأنه يحتاج إلي عمل يومي ولسنوات طويلة.. يجب أولا: أن نتعلم كيف نحدد الأولويات ولا نضع كل القضايا والمشكلات في درجة أهمية واحدة.. ويجب ثانيا: أن نتعلم ألا نبدأ العمل إلا بعد استكمال التفكير والبحث والدراسة, ويجب ثالثا: ألا نفكر في كل مشروع علي حدة, ولكن يجب أن نفكر في المشروع في الإطار العام لنحدد مكانه بين جميع المشروعات الأخري, ويجب رابعا: أن نتعلم وضع معايير موضوعية لتقويم العمل والحكم علي نجاحه أو فشله علي أسس غير شخصية, ويجب خامسا أن نتعلم كيف نحاسب أنفسنا ونحاسب بعضنا البعض ولا نضيق بالاختلاف أو النقد أو المعارضة ولا نجعل المعارضة حربا عدائية أو تعبيرا عن الكراهية أو الرفض. ونجعلها إسهاما في تحسين الأداء واستكمال النقص والتنبيه إلي الأخطاء بقصد الإصلاح.. وهذا ما يقودنا إلي أهمية التربية الديمقراطية وتعميق الفكر الديمقراطي, ليس فقط بتدريس مباديء الديمقراطية للتلاميذ, ولكن بممارسة الديمقراطية وتعليمها من خلال السلوك اليومي للمعلم والمدير ومجلس الآباء ومجلس الإدارة في كل مدرسة وكل كلية, وتعويد الشباب علي تقبل التعددية والمشاركة في إدارة المدرسة والكلية.
يقودنا الإعداد للمستقبل أيضا إلي ضرورة تحديث التشريعات القائمة, وقد أصبح هذا الموضوع من الموضوعات التقليدية التي يتكرر فيها الحديث منذ عشرات السنين, حتي أصبح الجميع يجيدون الحديث عن وجود تشريعات ونصوص مهملة لا تنفذ, وقوانين كثيرة يصعب علي المواطن الالتزام بها برغم أنه ملزم بتنفيذها والجهل بالقانون لا يعفي من العقوبة, وقوانين ترجع إلي بدايات القرن الماضي وتجاوزها المجتمع.. كلام كثير يقال ويردده الجميع.. والمهمة صعبة.. ولكن لابد من إنجازها.. وسبق أن شكلت عشرات اللجان للمراجعة وإعداد قوانين عصرية.. وطال الانتظار بأكثر مما يجب.
كما طال الانتظار لتحقيق الشعار الذي يتكرر في كل التصريحات حتي أصاب الناس بالملل, وهو شعار القضاء علي البيروقراطية وبدء الثورة الإدارية ورفع كفاءة الأداء وتحقيق المرونة والانسياب في تعاملات المواطنين مع أجهزة الحكومة, خاصة الضرائب والجمارك والبنوك والتأمينات وغيرها وغيرها.. وبرغم أن شعار الثورة الإدارية تجاوز عمره نصف قرن, فإنه مازال شعارا لم يلمس المواطنون آثارا لتحقيقه, ومازالت متاعب المواطنين والمستثمرين كما هي.
ومن الشعارات المملة أيضا شعار دخولنا عصر الثورة المعرفية والتكنولوجية وتحديث مؤسسات البحث العلمي وربط الأبحاث العلمية باحتياجات المجتمع.. ومثله شعار بناء الإنسان وتطوير الثقافة ومراجعة الخطاب الديني.
أهمية تقرير مجلس الشوري أنه لا يردد الشعارات التي نعرفها ولم نعد نصدق بأنها ستنفذ, ولكنه يضع مقترحات محددة وعملية للتنفيذ, وهذا ما يدعونا إلي مطالبة مجلس الوزراء بتخصيص جلسة لمناقشته وتحويله إلي برنامج عمل..