أصوات عاقلة فى إسرائيل
كتب يوري إفينيري, المفكر والكاتب الإسرائيلي المعروف ورئيس حركة السلام, مقالا في صحيفة هيرالد تريبيون وجه فيه نقدا لاذعا لرئيس الوزراء الإسرائيلي إريل شارون وسياسته العدوانية, وحذر الإسرائيليين والعالم من تصديق شارون بأنه قادر علي كسر إرادة الشعب الفلسطيني وزعيمه ياسر عرفات.
المقال نشر بالعدد الصادر يوم2 فبراير الحالي بعنوان نابليون عند بوابات رام الله: خطأ إريل شارون, يقول من الخطأ أن نتصور أن الإسرائيليين جميعهم مثل شارون.. دمويون وعدوانيون.. أعماهم شعور الكراهية للعرب عن رؤية الحقيقة.. لأن في إسرائيل الآن نماذج أخري من البشر.. لهم عقول وقلوب.. ولهم أيضا عيون يرون بها أبعاد المأساة التي أوجدها شارون وتصدر عنهم أصوات عالية تعبر عن ضمائر مازالت حية.. ومن واجبنا أن نصغي إلي أصوات العقل لأنها هي التي سوف تنتصر في النهاية علي جنون القوة.
وقد نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت تحقيقا قالت فيه إنه لا يوجد شخص في إسرائيل لا يسأل نفسه: كيف يمكن أن نخرج من هذا الوحل؟.. وجاءت الإجابات كما يلي:
دافيد جروسمان أديب ـ قال: نحن موجودون اليوم في دائرة وهمية, والحل موجود خارج هذه الدائرة, وهل يستطيع شارون أن يقول الحقيقة للإسرائيليين وهي أنه إذا بقي الوضع علي ما هو عليه الآن فسوف نستمر في قتلهم, وسوف يستمرون في قتلنا.. يجب أن نفاوض لكي نخرج من هذه الدائرة.. يجب تقديم سبب للطرف الثاني كي يتنازل عن استعمال العنف.. يجب أن نفعل الآن ما سنضطر إلي فعله في نهاية الأمر, وأعني ما اتفق عليه قبل سنة تقريبا في طابا, فهذا هو الطريق الذي سنضطر إلي السير فيه في النهاية, والسؤال هو: كم من الأشخاص سيموت حتي يفهم رئيس الوزراء أن هذه هي الطريق؟.. يجب علي أرييل شارون أن يتوجه غدا إلي ياسر عرفات ويقول له تعال لنلتقي ونتكلم..
وقال ماير فلنر وهو من الموقعين علي وثيقة إنشاء دولة إسرائيل: أخاف علي وجود دولة إسرائيل التي كنت واحدا من مؤسسيها, وأرغب في بقاء إسرائيل, لذلك أعتقد أن علي الحكومة الإعلان عن الانسحاب الفوري من جميع الأراضي التي احتلت عام1967, وتكون القدس الغربية عاصمة إسرائيل, والقدس الشرقية عاصمة فلسطين, وعلي الحكومة أن تفهم المقولة التي تحذر من الطمع, إذا أمسكت كثيرا فإنك لم تمسك شيئا.. وقد سمعت أن أرييل شارون يقول إننا انتصرنا في جميع الحروب, وهذا ليس صحيحا.. لم ننتصر في لبنان ولكن خسرنا في هذه الحرب التي أقحمنا هو بنفسه فيها, وأعضاء الكنيست يعبرون عن آرائهم اليوم بما يتناسب مع مصالحهم الانتخابية القادمة, وما يهمهم فقط هو الكرسي الذي يجلسون عليه, أما أنا فأنظر إلي مصير الدولة بخوف شديد, وإذا استمر الوضع الحالي عشر سنوات أخري, فلن تكون هناك دولة إسرائيل!
وقال فيكتور شمطوف وزير الصحة الإسرائيلي الأسبق: عندما قامت دولة إسرائيل وانتصرنا في تلك الحروب القاسية التي سميناها حرب التحرير اعتقدنا جميعا أن المهمة الاستراتيجية أمام إسرائيل بعد قيامها هي تقبلها في المنطقة واستيعابها كجسم ينتمي إلي الشرق الأوسط, ولقد كرر رئيس الحكومة الأولي دافيد بن جوريون تأكيد أن هذه هي المهمة الأولي, وهي اليوم أيضا المهمة الأولي الفورية.. وأنا بقيت متفائلا كما كنت آنذاك, وكما توصلنا إلي اتفاق سلام مع مصر, رغم قول الكثيرين إن ذلك ليس ممكنا, وكما توصلنا إلي اتفاق سلام مع الأردن, فسنتوصل إلي اتفاق سلام مع الشعب الفلسطيني والسبب بسيط: إذا لم تتقبلنا المنطقة لن يكون لنا وجود.. وأنا متأكد أن الشعبين سيتوصلان إلي الاعتراف بأنه لا طريق إلا العيش في سلام الواحد إلي جانب الآخر.. لا أعرف متي سيحدث ذلك, لكنني أؤمن بأننا الآن في مرحلة الشفاء من أحلام عيش الجانبين الواحد ضد الآخر, وخلافا مع رغبة الآخر..
وقالت يهوديت هندل ـ كاتبة: علي الحكومة أن تفعل عكس ما تفعله الآن تماما.. يجب الخروج من المناطق, وبدء التحدث عن دولة فلسطينية في كل المناطق.. يجب إخلاء المستوطنات.. هذه الحكومة لا تعترف بغير طريق القوة والتطرف في كل شيء, وتمارس المزيد والمزيد من القوة, والدولة وشبابها يتدهورون, ووجهنا الإنساني أصبح قبيحا وعنيفا أكثر وأكثر.. والانسحاب سيتم في يوم ما في كل الأحوال, ومن الأفضل أن ننسحب قبل أن يفقد شبابنا مظهرهم الإنساني, وقبل أن يقتل المزيد من الناس.. وأنا متخوفة جدا مما سيحدث هنا إذا لم ننسحب.. متخوفة من وقوع حرب كحرب لبنان لن نستطيع الخروج منها, ولن نجد الإنسان الشجاع مثل إيهود باراك ليخرجنا منها.. ومن الأفضل أن نستبق الساعة, لأنه تحدث هنا عملية تشبه ما حدث في لبنان.. ولقد دخلنا في الوحل.. وهو معقد هنا أكثر.. وكل يوم يمضي يزيد الكراهية ويزيد عدد الضحايا الذين يسقطون عبثا.. وإذا تصرفت حكومتنا بعكس ما تفعله اليوم تماما فمن الممكن أن يتوافر الحل.
وقال يعقوب اغمون مدير مسرح هبيما: كي نخرج من الوحل يجب استخدام العقل قبل تطبيق الرؤية السياسية.. ان الحكومة لا تستخدم العقل ولا أجد أي منطق وراء عملية اتخاذ القرارات.
أما آسي ديان.. فقد قالت: أخذت إجازة نصف سنة ابتعدت فيها عن قراءة ومشاهدة وسماع كل تقرير يتعلق بما يحدث في دولة انفصل فيها الوعي عن الدولة, وأنا مع غالبية الجمهور السوي العقل نشعر بنكهة الدمار في الأجواء المشحونة.. وقبل الدمار اقترح الخطوات التالية لمنع تحقق النبوءة: إعلان السلام من جانب واحد, وإخلاء كل المستوطنات دون أي مقابل سياسي, وتعويض المستوطنين بسخاء, وإرسال خطاب شكر لكل منهم يشار فيه إلي أن إقليمنا الحقيقي هو التوراة, والانسحاب من جانب واحد إلي حدود ما قبل5 يونيو وإعلان أنه اعتبارا من الآن سيعتبر كل عربي يتجاوز هذه الخطوط بمثابة سبب لتقصير حرب الأيام الستة إلي ست ثواني.. والإعلان أن حق العودة هو حق متبادل, وبموجبه يمكن للاجئين العودة إلي بيوتهم, وفي الوقت نفسه تقوم كل الدول العربية بإعادة كل الممتلكات التي تركها اليهود في هذه الدول, والإعلان عن أن شارون وبن أليعازر ليسا ذي صفة وارسالهما إلي بيتهما مع توفير سائق وحارس شخصي لكل منهما مدي الحياة, ووعدهما بإطلاق اسميهما علي ميدانين, وتوجيه الدعوة إليهما مع زوجتيهما لحضور حفل الإعلان عن إقامة دولة مستقلة تسمي دولة إسرائيل.
هذه الأصوات العاقلة لا تعبر عن النخبة الحاكمة ولا عن قطعان المستوطنين ولا عن قيادات الأحزاب, ولكنها تعبر عن قطاع من النخبة المثقفة التي تفكر بالعقل والمنطق وهم قلة قليلة ولكن يجب أن نستمع إليهم علي أي حال, فقد يزداد عددهم ويأتي يوم يسود فيه العقل والمنطق كل النخب الحاكمة والمشاركة في القرار في إسرائيل, وتختفي النزعة العدوانية التي تسود فيها الآن, والتي عبر عنها كثيرون فينفس التحقيق من أمثال الياكيم هعتسني من قادة الاستيطان الذي قال: يجب أن نخرج من رءوس العرب فكرة أنه ستكون لهم في يوم ما سيادة علي أرض إسرائيل الغربية, وشارون ملزم بتصفية السلطة الفلسطينية فورا, وسنواصل محاربة الشعب الفلسطيني لأن التفكير المتخلف فقط هو الذي يفترض أن كل قصة يجب أن تنتهي نهاية سعيدة.. وكما قال العميد احتياط البروفيسور أرييه الداد: يجب الخروج إلي الحرب, حرب رسمية من خلال إعلان الحرب وإطلاق شرارتها الأولي ويمكن أن تبدأ هذه الشرارة برأس عرفات وبعد ذلك ستواجه الفلسطينيين مشكلة من يختارونه ليتزعمهم.. فإذا كان شخصا يمكنه السيطرة نجري معه المفاوضات, وإذا لم يكن كذلك سنضطر إلي احتلال المناطق من جديد, ومثل الحاخام يوسف غاعرليتسكي رئيس جمعية اسمها جمعية حاخامون من أجل إنقاذ النفس الذي قال: في سفر المزامير ابعد الشر واصنع الخير فيجب أولا إبعاد الشر أي إلغاء كل الاتفاقيات التي وقعناها مع الأعداء.. لا أوسلو.. ولا السلام الخيالي..
الأصوات العاقلة في إسرائيل قليلة وغير مؤثرة في القرار.. لكنها موجودة علي أي حال
فيه إن تولستوي في روايته الحرب والسلام وصف معركة بورودينو التي فتح فيها نابليون الطريق إلي موسكو, وفي أثناء احتدام هذه المعركة المفزعة يبحث بطل الرواية عن القائد الروسي كوتوسوف فيجده جالسا علي قمة أحد التلال يتابع المعركة بهدوء, واندهش من هذا الهدوء, لكن القائد قال له: في مثل هذه المرحلة ليس في وسعي أن أعمل شيئا والمعركة قائمة بين كتلتين من البشر, والكتلة الأكثر قوة وحزما هي التي ستنتصر.
يقول إفينيري: تذكرت هذا المشهد عندما قمت بزيارة ياسر عرفات في رام الله, فوجدت في مكتبه السكون, ووجدته هادئا أكثر مما كان في آخر مرة رأيته فيها, فقد اختفت رعشة أطرافه ونظرته المستعجلة, وذكرني باللقاء الأول معه في أثناء حصاره في بيروت عام1982, وقادني إلي النافذة وأشار إلي الدبابات الإسرائيلية الرابضة علي بعد مائة متر فقط ومدافعها مصوبة نحوه, وكان واضحا أن الحرب الإسرائيليةـ الفلسطينية التي أصبح عمرها120 عاما قد وصلت إلي مرحلة حاسمة: كتلتان من البشر في مواجهة بعضهما بعضا.. قوة لا يمكن مقاومتها.. وهدف صامد.. والذين يقولون إن شارون لا يعرف ما يريد وليست له خطة, لا يعرفون الرجل, فالرجل يعتقد منذ عشرات السنين أن له رسالة تاريخية لإقامة الدولة الصهيونية كما يجب أن تكون.. أي الدولة التي تنجح في تطهير كل أرض إسرائيل من سكانها الأصليين وتحويلها إلي مستوطنات.. وفي سعيه إلي تحقيق هذه المهمة التاريخية أصبح قاسي القلب.. لا يعرف الرحمة.. ولا تمنعه حمامات الدم وتساقط الضحايا مهما يبلغ عددهم من تنفيذ مهمته.. ولا يهمه أن يعتبر البعض ما يفعله جرائم حرب.. وفي الوقت نفسه فإنه يعلم أنه ليس أمامه متسع من الوقت, وعليه أن ينتهز الفرص لتدمير الشعب الفلسطيني كهدف سياسي, ولتحقيق ذلك فإن عليه كسر القيادة الفلسطينية, وهزيمته المقاتلين الفلسطينيين, وكسر إرادتهم, وتحطيم معنوياتهم, والقضاء علي قدرتهم علي المقاومة!
أما الهدف النهائي لشارون ـكما يقول يوري إفينيريـ فإنه يريد الوصول إليه علي مرحلتين, المرحلة الأولي حبس الفلسطينيين في كانتونات معزولة عن بعضها وعن العالم ومحاطة بالمستوطنات, وفي هذه السجون الكبيرة يسمح للفلسطينيين بإدارة شئونهم وتوفير العمالة الرخيصة لإسرائيل, ولا يهم أن يطلق اسم الدولة الفلسطينية عليها. وبعد ذلك يمكنه استغلال إحدي الأزمات لطرد الفلسطينيين بمن فيهم من يحملون الجنسية الإسرائيلية, وهو واثق من قدرته علي إثارة هذه الأزمة في الظروف المناسبة, كما أنه مؤمن بأفكاره ويحتقر كل من يفكر بطريقة مختلفة.
ويقول إفينيري إن الفلسطينيين ليس لديهم, أمام هذه القوة, غير القدرة علي امتصاص الضربات, بحيث تتلخص الاستراتيجية الفلسطينية في كلمة واحدة: الصمود, وإحساس الفلسطينيين بأن القتال من أجل أبنائهم ومستقبلهم يولد فيهم قوة مقاومة تذهل جنرالات شارون مثلما أذهلت المقاومة الروسية جنرالات نابليون.. وعرفات هو الرمز لهذه الإرادة الفلسطينية أكثر من أي شخص آخر, وحتي الفلسطينيون الذين اعتادوا توجيه النقد لأسلوب إدارته ومعظمهم تلقوا تعليمهم في الغرب يعلمون أنه ليس هناك شخص يقدر علي مواجهة مثل هذه الأزمة الوجودية غيره.. فهذا الرجل الصامد في رام الله في مواجهة الدبابات هو تجسيد للإرادة الفلسطينية علي الدفاع عن الوطن وعن الوجود القومي مهما يكن الثمن.. ولكن نابليون الإسرائيلي لا يفهم الفلسطينيين كما لم يفهم نابليون الفرنسي الشعب الروسي, فشارون وأتباعه يعتقدون أن عرفات الآن معزول ومشلول الإرادة, ولا يفهمون أنه في هذا الموقف بالتحديد أقوي, وأكثر تأثيرا من أي وقت مضي.. ونابليون انتصر في معركة بورودينو ودخل موسكو كمنتصر عظيم, ولكنه بعد ذلك بأسابيع قليلة هزمه القائد الروسي كوتوسوف هزيمة ساحقة, ولم يجد نابلي
ون أمامه سوي الهرب تاركا وراءه بقايا جيش مهزوم يموت من الجوع والبرد.
هذا ما قاله يوري إفينيري, ومهما حاولنا أن نصف الحالة التي وصل إليها الصراع الإسرائيليـ الفلسطيني علي يد شارون فلن نجد أبلغ وأدق من هذا الوصف.. ولو جاء ذلك علي لسان كاتب أو مفكر أو سياسي عربي لقيل إن هذه هي طبيعة العرب العاطفية التي لا تري الواقع كما هو ولا تعترف بالحقيقة إذا كانت لغير مصلحتها.. أما وقد شهد شاهد من أهلها, فإننا نرجو أن تجد هذه الشهادة التي نشرتها الصحيفة الأمريكية آذانا صاغية وعقولا متفتحة فتعمل للسلام والعدل وتوقف آلة العدوان والدمار التي تتولي رئاسة الوزارة الإسرائيلية!