شاهد من أهلها

كتب يوري إفينيري‏,‏ المفكر والكاتب الإسرائيلي المعروف ورئيس حركة السلام‏,‏ مقالا في صحيفة هيرالد تريبيون وجه فيه نقدا لاذعا لرئيس الوزراء الإسرائيلي إريل شارون وسياسته العدوانية‏,‏ وحذر الإسرائيليين والعالم من تصديق شارون بأنه قادر علي كسر إرادة الشعب الفلسطيني وزعيمه ياسر عرفات‏.‏

المقال نشر بالعدد الصادر يوم‏2‏ فبراير الحالي بعنوان نابليون عند بوابات رام الله‏:‏ خطأ إريل شارون‏,‏ يقول فيه إن تولستوي في روايته الحرب والسلام وصف معركة بورودينو التي فتح فيها نابليون الطريق إلي موسكو‏,‏ وفي أثناء احتدام هذه المعركة المفزعة يبحث بطل الرواية عن القائد الروسي كوتوسوف فيجده جالسا علي قمة أحد التلال يتابع المعركة بهدوء‏,‏ واندهش من هذا الهدوء‏,‏ لكن القائد قال له‏:‏ في مثل هذه المرحلة ليس في وسعي أن أعمل شيئا والمعركة قائمة بين كتلتين من البشر‏,‏ والكتلة الأكثر قوة وحزما هي التي ستنتصر‏.‏


يقول إفينيري‏:‏ تذكرت هذا المشهد عندما قمت بزيارة ياسر عرفات في رام الله‏,‏ فوجدت في مكتبه السكون‏,‏ ووجدته هادئا أكثر مما كان في آخر مرة رأيته فيها‏,‏ فقد اختفت رعشة أطرافه ونظرته المستعجلة‏,‏ وذكرني باللقاء الأول معه في أثناء حصاره في بيروت عام‏1982,‏ وقادني إلي النافذة وأشار إلي الدبابات الإسرائيلية الرابضة علي بعد مائة متر فقط ومدافعها مصوبة نحوه‏,‏ وكان واضحا أن الحرب الإسرائيليةـ الفلسطينية التي أصبح عمرها‏120‏ عاما قد وصلت إلي مرحلة حاسمة‏:‏ كتلتان من البشر في مواجهة بعضهما بعضا‏..‏ قوة لا يمكن مقاومتها‏..‏ وهدف صامد‏..‏ والذين يقولون إن شارون لا يعرف ما يريد وليست له خطة‏,‏ لا يعرفون الرجل‏,‏ فالرجل يعتقد منذ عشرات السنين أن له رسالة تاريخية لإقامة الدولة الصهيونية كما يجب أن تكون‏..‏ أي الدولة التي تنجح في تطهير كل أرض إسرائيل من سكانها الأصليين وتحويلها إلي مستوطنات‏..‏ وفي سعيه إلي تحقيق هذه المهمة التاريخية أصبح قاسي القلب‏..‏ لا يعرف الرحمة‏..‏ ولا تمنعه حمامات الدم وتساقط الضحايا مهما يبلغ عددهم من تنفيذ مهمته‏..‏ ولا يهمه أن يعتبر البعض ما يفعله جرائم حرب‏..‏ وفي الوقت نفسه فإنه يعلم أنه ليس أمامه متسع من الوقت‏,‏ وعليه أن ينتهز الفرص لتدمير الشعب الفلسطيني كهدف سياسي‏,‏ ولتحقيق ذلك فإن عليه كسر القيادة الفلسطينية‏,‏ وهزيمته المقاتلين الفلسطينيين‏,‏ وكسر إرادتهم‏,‏ وتحطيم معنوياتهم‏,‏ والقضاء علي قدرتهم علي المقاومة‏!‏


أما الهدف النهائي لشارون ـكما يقول يوري إفينيريـ فإنه يريد الوصول إليه علي مرحلتين‏,‏ المرحلة الأولي حبس الفلسطينيين في كانتونات معزولة عن بعضها وعن العالم ومحاطة بالمستوطنات‏,‏ وفي هذه السجون الكبيرة يسمح للفلسطينيين بإدارة شئونهم وتوفير العمالة الرخيصة لإسرائيل‏,‏ ولا يهم أن يطلق اسم الدولة الفلسطينية عليها‏.‏ وبعد ذلك يمكنه استغلال إحدي الأزمات لطرد الفلسطينيين بمن فيهم من يحملون الجنسية الإسرائيلية‏,‏ وهو واثق من قدرته علي إثارة هذه الأزمة في الظروف المناسبة‏,‏ كما أنه مؤمن بأفكاره ويحتقر كل من يفكر بطريقة مختلفة‏.‏

ويقول إفينيري إن الفلسطينيين ليس لديهم‏,‏ أمام هذه القوة‏,‏ غير القدرة علي امتصاص الضربات‏,‏ بحيث تتلخص الاستراتيجية الفلسطينية في كلمة واحدة‏:‏ الصمود‏,‏ وإحساس الفلسطينيين بأن القتال من أجل أبنائهم ومستقبلهم يولد فيهم قوة مقاومة تذهل جنرالات شارون مثلما أذهلت المقاومة الروسية جنرالات نابليون‏..‏ وعرفات هو الرمز لهذه الإرادة الفلسطينية أكثر من أي شخص آخر‏,‏ وحتي الفلسطينيون الذين اعتادوا توجيه النقد لأسلوب إدارته ومعظمهم تلقوا تعليمهم في الغرب يعلمون أنه ليس هناك شخص يقدر علي مواجهة مثل هذه الأزمة الوجودية غيره‏..‏ فهذا الرجل الصامد في رام الله في مواجهة الدبابات هو تجسيد للإرادة الفلسطينية علي الدفاع عن الوطن وعن الوجود القومي مهما يكن الثمن‏..‏ ولكن نابليون الإسرائيلي لا يفهم الفلسطينيين كما لم يفهم نابليون الفرنسي الشعب الروسي‏,‏ فشارون وأتباعه يعتقدون أن عرفات الآن معزول ومشلول الإرادة‏,‏ ولا يفهمون أنه في هذا الموقف بالتحديد أقوي‏,‏ وأكثر تأثيرا من أي وقت مضي‏..‏ ونابليون انتصر في معركة بورودينو ودخل موسكو كمنتصر عظيم‏,‏ ولكنه بعد ذلك بأسابيع قليلة هزمه القائد الروسي كوتوسوف هزيمة ساحقة‏,‏ ولم يجد نابلي

ون أمامه سوي الهرب تاركا وراءه بقايا جيش مهزوم يموت من الجوع والبرد‏.‏

هذا ما قاله يوري إفينيري‏,‏ ومهما حاولنا أن نصف الحالة التي وصل إليها الصراع الإسرائيليـ الفلسطيني علي يد شارون فلن نجد أبلغ وأدق من هذا الوصف‏..‏ ولو جاء ذلك علي لسان كاتب أو مفكر أو سياسي عربي لقيل إن هذه هي طبيعة العرب العاطفية التي لا تري الواقع كما هو ولا تعترف بالحقيقة إذا كانت لغير مصلحتها‏..‏ أما وقد شهد شاهد من أهلها‏,‏ فإننا نرجو أن تجد هذه الشهادة التي نشرتها الصحيفة الأمريكية آذانا صاغية وعقولا متفتحة فتعمل للسلام والعدل وتوقف آلة العدوان والدمار التي تتولي رئاسة الوزارة الإسرائيلية‏!‏


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف