فى ذكرى الضاحك الباكى
مرت 46 سنة على رحيل نجيب الريحانى.. من يصدق؟ فنان الشعب الذى وصل القمة بعد معاناة وصبر.. الفنان الضاحك الباكى الذى أضحكنا وأبكانا، صاحب الأداء المتميز.. والصوت الحزين الساخر.. مرت 46 سنة على وفاته مع أنه مازال حتى الآن يعيش بيننا، لم يفارقنا ولم نفارقه.. أفلامه ومسرحياته هى العزاء لنا والسلوى، نهرب إليها من عبوس الأيام وفجاجة الأفلام هذه الأيام.
هو أستاذ كل فنانى الكوميديا الذين نعرفهم ابتداء من عبد المنعم مدبولى وفؤاد المهندس إلى عادل إمام، أما أرجوزات هذه الأيام فليسوا تلاميذه وإنما هم تلاميذ البلياتشو فى السيرك القومى.
فى حياة نجيب الريحانى حكايات ودروس مجهولة للجيل الجديد فى مذكراته التى كتبها قدر كبير من الصراحة.. سجل فيها تاريخ حياته وتاريخ الفن فى مصر فى أيامه، فهو كما قال عنه بديع خيرى - أقرب أصدقائه ومؤلف الكثير من مسرحياته - لم يكن مجرد ممثل يكسب عيشه من مهنة التمثيل، بل كان فيلسوفا وفنانًا عاش لفنه وتحمل الحرمان وشظف العيش من أجل الفن.
وكان من الممكن أن يكون موظفًا ناجحًا كما أراد أهله، ولكنه كان ينفق على التمثيل ما يحصل عليه من الوظيفة، ثم ترك الوظيفة وغامر بالتفرغ للفن فى وقت لم يكن الفن يحقق ثروة، كما هو الآن، وعندما أمره الأطباء فى سنة 1942بأن يعتزل التمثيل ولو ستة أشهر وإلا فإنه يعرض حياته للخطر رفض وقال: أموت على المسرح أفضل من أن أموت فى فراشى.. وكان يرهق نفسه فى البروفات حتى أنه كان يقضى شهرا كاملا فى بروفات فصل واحد من المسرحية ولا ينتقل إلى بروفات الفصل التالى إلا بعد أن يطمئن إلى إتقانه لدوره وإتقان كل واحد فى الفرقة لدوره، قبله كان الممثل الكوميدى لا يحظى بالاحترام وهو الذى انتزع الاحترام لنفسه ولأجيال الممثلين معه وبعده، وكانت أمه تخجل من أن يقال عنه إنه ممثل، ولكنها كانت يوما فى مترو مصر الجديدة وسمعت بعض الركاب يتحدثون عن نجيب الريحانى على أنه ممثل عظيم، فوقفت أمامهم دون أن تدرى وتكلمت بصوت عال: ده ابنى.. وفى هذه الليلة ذهبت لتشاهده على مسرح الإجيبسيانه واعتبر حضورها واعترافها به كممثل أسعد أيام حياته.
???
شهد لنجيب الريحانى كبار المخرجين العالميين.. ونظمت له شركة «جومون» الفرنسية رحلة إلى فرنسا لتقديم مسرحياته فى عدة مدن فرنسية.. وفى حفلة أقامها نادى الضباط المصرى قدم الريحانى مسرحية «حكم قراقوش» فهرع لتهنئته سايمورهيكس عميد المسرح البريطانى فى ذلك الوقت وكان حاضرا وأعلن أنه شهد ممثلا من الصف الأول مع الممثلين العالميين.. وكان من المعجبين والمشجعين له زعماء الوطنية المصرية (طلعت حرب وسعد زغلول وهدى شعراوى) وغيرهم من كبار الشخصيات.
???
الغريب أن الريحانى لم يبدأ ممثلا كوميديا ولم ينجح فى إقناع الجمهور كممثل دراما، وقالت عنه الصحافة: لا تستطيع أن تملك نفسك من الضحك بمجرد أن تراه حتى فى تكشيرته ووجهه المكفهر، ومع الأسف لم يكن فى عهده تليفزيون إلا فى مرحلته المتأخرة ولذلك لم يشاهد جمهور هذه الأيام مسرحياته الوطنية التى كان يمزج فيها السياسة بالفكاهة، ويصور سوء حال المصريين فى ظل استبداد الحكم واستبداد الاحتلال، وتحمل بسبب هذه المسرحيات متاعب كثيرة من الانجليز ومن السراى.. وقال عن ذلك فى مذكراته: حين رأيت من الجمهور المثقف ومن عامة الشعب هذا الإقبال المنقطع النظير رأيت أن استغله وأوجهه لتقديم مشاهد عن العيوب الاجتماعية وألحان فى حب الوطن والمحافظة على كرامته، وكان من آثار هذا الإقبال أن تضاعف الخصوم والحساد واختلفت أسلحة كل منهم فى الحرب علىّ.. وبعد ذلك طور مسرحياته فكانت تتضمن أغانى سيد درويش الوطنية، وقدم مشاهد ساخرة للجالس على العرش ولمحترفى السياسة وأضحك الناس عليهم جميعًا.
???
كان فى حياة نجيب الريحانى كثير من الرجال والنساء، ولكن كان فى قلبه مكانة خاصة جدًا لرجل واحد وسيدة واحدة.. الرجل هو خادمه النوبى حسن صالح الذى قدمه للتمثيل معه واشتهر فيما بعد باسم حسن كشكش، وكان يعتبره «قدم السعد» لأنه حقق الشهرة والنجاح والثروة منذ أن عمل معه، وكانت السيدة هى «لوسى دى فرناى» وهى سيدة فرنسية تعيش فى مصر، قال عنها:«كانت صديقة لى وعونا فى الشدة وإن ذكرت فى حياتى شيئا طيبا فهى أيام صداقتها» وعندما افترقا فى سنة 1920 كان هذا الفراق هو أول النكبات التى صبها القدر فوق رأسه فى حلقات متتابعة حتى واجه الإفلاس وأصبح البحر جفافا على حد تعبيره.
وقبل أن يموت طالب الحكومة بإقامة ملجأ للممثلين المتقاعدين، ولما لم يجد استجابة شرع فى بناء بيت قرر أن يخصصه لهذا الغرض لكنه لم يعش إلى أن يتم الإجراءات الرسمية لتخصيص البيت لهذا الغرض، ولعلنا نذكر كيف عاشت فنانة مصر العظيمة فاطمة رشدى أيامها الأخيرة بلا مأوى ولا مورد رزق لولا أن تداركها الرئيس السادات فى آخر أيامها، وحدث ذلك أيضًا مع الفنانة الكبيرة أمينة رزق.. ولا تزال المشكلة قائمة ولا تجد إلا حلولًا فردية وفقا للحظ.
???
بدأت هوايته للتمثيل هو فى مدرسة الفرير بالخرنفش وكان يقوم بالأدوار المهمة فى التمثيليات التى تقدمها المدرسة فى حفلاتها. بعد المدرسة التحق بوظيفة فى البنك الزراعى فى القاهرة وبالمصادفة كان الفنان الكبير عزيز عيد موظفا فى نفس البنك، لأن التمثيل فى ذلك الوقت لم يكن يدر دخلا يكفى الفنان ليعيش. وفى سنة 1908 استقال عزيز عيد من البنك وكوّن فرقته التمثيلية الأولى يقدم فيها مسرحيات مترجمة عن الفرنسية وكان يسند لنجيب الريحانى الأدوار الثانوية، ولإهماله عمله فصله البنك فالتحق بفرقة سليم عطالله بمرتب أربعة جنيهات فى الشهر، ولكنه فى مسرحية تفوق على صاحب الفرقة الذى كان بطل المسرحية فكانت النتيجة أن فصله، ليلتحق بوظيفة فى شركة السكر بنجع حمادى وكان مصيره الفصل بعد سبعة أشهر فعاش أسابيع من التشرد والجوع إلى أن التقى بصديق عرض عليه أن يشاركه فى ترجمة رواية فرنسية مقابل مائة وعشرين قرشا عن كل جزء منها، وتمكن بهذه القروش أن يستأجر غرفة فى فندق بخمسة قروش فى الليلة، ثم التحق بفرقة الشيخ أحمد الشامى مترجمًا لرويات فرنسية وممثلا فى الفرقة بأربعة جنيهات فى الشهر.. وأخيرًا أتيحت له فرصة العودة إلى الوظيفة فى شركة السكر فىنجع حمادى فعاد، وبعد عامين ارتفع مرتبه إلى أربعة عشر جنيها واستطاع أن يدخر مائتى جنيه وهى ثروة كبيرة، وفى نجع حمادى تعرف على الفنان محمد عبد القدوس الذى نقل للعمل مدرسا فى مدرسة الصنايع وبعد قليل ترك محمد عبد القدوس نجع حمادى وفصل نجيب الريحانى من الوظيفة وعاد إلى القاهرة ليعانى حياة البطالة من جديد إلى أن التحق بفرقة جورج أبيض ليشارك السيدة روزاليوسف وعبد العزيز خليل وحدث أن قام بدور ملك النمسا أمام جورج أبيض الذى كان يقوم بدور ريتشارد قلب الأسد وبمجرد أن دخل نجيب الريحانى انفجر الجمهور ضاحكا ولم يستمع أحد إلى جورج أبيض وهو يصيح «ويل لملك النمسا من قلب الأسد» وفشلت المسرحية وفصل نجيب الريحانى من الفرقة.
بعد ذلك كوّن فرقة خاصة مع عزيز عيد واستيفان روستى وحسن فايق والسيدة روزاليوسف وأطلقوا عليها «فرقة الكوميدى العربى» وقدموا مسرحية مترجمة عن الفرنسية وانضمت منيرة المهدية لتغنى بين الفصول.
والقصة طويلة جدًا.. عمل.. وبطالة.. وتسكع.. وجوع.. ونجاح.. وفشل.. ثم نجاح، وقيمة مذكرات نجيب الريحانى أنها تعلم من يقرأها أن النجاح لا يأتى بالساهل، وأن من يتحمل الفشل ولا يفقد ثقته فى نفسه ولا يشعر بالهزيمة ولا يترك نفسه للإحباط، من يصمم على النجاح سوف يصل.. هذا هو الدرس الذى ينقص كثيرا من شبابنا هذه الأيام، فهم يريدون أن يصعدوا من أول خطوة ويحصلوا على كل شىء دون أن يتحملوا المعاناة والتعب والسهر والجهد والفشل.. الدرس.. أن الإنسان الناجح هو الذى واجه الفشل وانتصر عليه.. الدرس.. أن النجاح يتوقف على الإرادة.. وقوة الإرادة مع الصبر تحقق المعجزات وهو يختم مذكراته بقوله: إننى بعد تجارب الحياة بحلوها ومرها خرجب بصديق واحد.. صديق وجدت فيه الوفاء والإخلاص.. ذلك الصديق هو عملى.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف