فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 19 )
انقلب السحر على الساحر!
كان هدف فاروق من تشكيل وتمويل "الحرس الحديدى" أن يكون فرقة اغتيال للزعماء المعارضين والذين لا يرضى عنهم، ولكن بعض أعضاء الحرس الحديدى وقد دخلوا القصر واتصلوا برجاله وعرفوا أسراره- كانوا فى الحقيقة أعضاء فى الصف الثانى من تنظيم الضباط الأحرار. ولم تكن حركة الضباط الأحرار خافية على الحكومية، وقد عرف بقيامها إبراهيم عبد الهادى رئيس الوزراء، وعرف أن جمال عبد الناصر على رأس هذه الحركة. وأرسل إبراهيم عبد الهادى يستدعى جمال عبد الناصر بحضور الفريق محمد حيدر وزير الحربية وقائد الجيش. وقال له: بلغنى أنك تقود حركة تسمى نفسها الضباط الأحرار، وأنكر عبد الناصر ذلك فقال الفريق حيدر: يا دولة الرئيس أظن أن ما بلغك مبالغ فيه وعادة الضباط أن يجتمعوا مع بعض ويدردشوا ويمزحوا وأحيانا يلعبوا الورق.. وختم رئيس الوزراء اللقاء بقوله لعبد الناصر: على كل حال إنى أطلب منك الابتعاد عن القيام بأى حركة.
يقول مرتضى المراغى – آخر وزير داخلية فى عهد فاروق- إن هذه المحادثة كانت إنذارا لعبد الناصر ليأخذ حذره فبعدت الشبهات عنه، وأصبح الشخص المتهم أمام الحكومة هو أنور السادات، وتردد اسمه على أنه زعيم الضباط الأحرار، وكانت أغلب تقارير البوليس السياسى عن حركة الضباط الأحرار تردد اسم البكباشى أنور السادات. ويعلق مرتضى المراغى- الذى يشغل وظيفة مدير الأمن العام واطلع على جميع تقارير وزارة الداخلية السرية- إن الثورة انتفعت كثيرا من وجود السادات، فكانت الأجهزة تراقبه ولا تراقب الباقين، كما استفادت حركة الضباط الأحرار أيضا من صداقة السادات مع الدكتور يوسف رشاد وهذه الصداقة هى التى ساعدت السادات على العودة إلى الجيش سنة 1948 بعد أن كان قد فصل منه بعد اتهامه فى قضية مقتل أمين عثمان وحصل بعد المحاكمة الطويلة على البراءة.
كما أن الضابط مصطفى كمال صدقى قال إن السادات كان معه فى السيارة التى وقفت أمام دار النحاس وفجر فيها قنبلة، ويرجح مرتضى المراغى أن الضباط الذين شاركوا فى فرقة الاغتيالات "الحرس الحديدى" شاركوا بإيعاز من قادة الضباط الأحرار لأنهم بالتصاقهم بالحرس الحديدى وهو تنظيم يعمل تحت حماية الملك شخصيا، وباتصالهم بالدكتور يوسف رشاد القريب جدا من الملك، أمكنهم أن يحموا ظهر الثورة.
وفى كتابها الموسعى (فاروق ظالما) ومظلوما تنقل الزميلة سهير حلمى عن سيد جاد ضابط الجيش فى ذلك الوقت وهو شاهد العيان الوحيد الذى كان عضوا فاعلا فى الحرس الحديدى وسجل شهادته فى كتاب بعنوان "الحرس الحديدى"، وقد رشحته للحرس الحديدى ناهد رشاد التى يقول عنها فى كتابه إنها كانت ملكة مصر الحقيقية لفترة من الزمن ليست قصيرة كان فاروق خلالها كخاتم فى إصبعها وينفذ كل طلباتها، وكانت شديدة الذكاء وشديدة الوطنية أيضا! ويذكر سيد جاد فى كتابه أهم الأسماء التى لعبت دورا مهما فى الحرس الحديدى كما يلى: عبد الرءوف صدقى- مرتضى المراغى- حسن فهمى عبد المجيد، عبد الله صادق.. ويقول: عندما طُلب منا قتل حسن البنا رفضنا فقام بهذا العمل جهاز مماثل لتنظيم الحرس الحديدى فى البوليس. وكانت كل عملية للحرس الحديدى تبدأ بتحضير السيارة السوداء وهى سيارة ضد الرصاص وبها مدافع ومنصة لإطلاق النار، ويتسلم كل فرد من مجموعة التنفيذ المدفع الرشاش و500 طلقة، ويصدر أمر من وزير الداخلية لجميع نقاط المرور بعدم معارضة هذه السيارة مهما فعلت، وكانت قائمة بأسماء من تريد السراى تصفيتهم جسديا تأتينا أولا بأول.
وبعد الثورة أجرى تحقيق عن الحرس الحديدى تضمنت أقوال سيد جاد فى هذا التحقيق قوله "إن الحرس الحديدى قام بإرهاب الملك ذاته عندما منح الإنجليز لقب جنرال فخرى فى الجيش الإنجليزى لفاروق فأطلقنا عليه النار من أعلى منزل يطل على القصر فأصيب الملك بالجنون، وأعتقد أن الوفد يرد عليه بهذا النوع من التصفية الجسدية، وطلب من الحرس الحديدى الرد على الوفد فى شخص النحاس، ولكن تضاربت الآراء فيما بيننا فطالب البعض بتصفية النحاس، والبعض الآخر تمسك ببراءته، لذلك نفذت العملية بمنتهى السخف، ولم يصب النحاس لأن النية كانت متجهة لعدم التنفيذ والاكتفاء بالتهويش.. فكانت مسرحية حتى لا يظن الملك بالحرس الحديدى أى ظنون! وهذه حقيقة تاريخية لم يلتفت إليها الذين كتبوا عن محاولات اغتيال النحاس.
ويقول سيد جاد إن خالد محيى الدين "عضو مجلس قيادة الثورة بعد ذلك ثم زعيم حزب التجمع" طلب منه أن يضع تنظيم الحرس الحديدى فى قبضته ليجعل منه وسيلة لخدمة الضباط الأحرار! ويضيف: ولقد قمنا بهذا الدور أنا وعبد الله صادق مع اللواء محمد نجيب وقد أيقظنا محمد نجيب فى إحدى الليالى من نومه عندما علمنا أنه مدرج فى كشف التصفيات، وكذلك فعلت مع عبود باشا عن طريق أحد العاملين معه، وقد انضم إلى الحرس الحديدى من الضباط الأحرار عبد المنعم عبد الرءوف، ومصطفى كمال صدقى وهو شخصية غريبة الأطوال يصلح ممثلا سينمائيا اكثر منه ضابطا، إذ كان يتصور أنه معبود النساء فامتلأ غرورا على الضباط الأحرار إلى حد الانفجار، إضافة إلى تدخل مرتضى المراغى- وزير الداخلية- لحمايتنا وأوامره بعدم التعرض لنا. ويذكر سيد جاد أن تنظم الحرس الحديدى كان يضم مجموعة من السيدات تشرف عليهن ناهد رشاد، ويعترف بأنه كان على اتصال بإحداهن واشترك معها فى محاولة استعادة فيلم التقطه اليهود لفاروق أثناء ممارسته لإحدى مغامراته النسائية، وكان الفيلم فى حوزة رجل يهودى قام بترتيب بيعه لزعماء الوفد، فاستطعنا الاستيلاء على حقيبته، وفوجئنا بأن الفيلم مزيف، وتم قتل هذا الرجل بواسطة رجال الحرس الحديدى ودفن فى حلوان. وفيما بعد اتضح أن الفيلم الأصلى موجود فى إسرائيل.
ويقول سيد جاد إن الحرس الحديدى هو الذى قام بتهريب حسين توفيق بعد الحكم عليه وإدانته فى قضية مقتل أمين عثمان. ويذكر أن يوسف رشاد طلب من الحرس الحديدى نسف قطار سوف يستقله النحاس فى رحلته إلى الصعيد.. وفى النهاية يقول سيد جاد إن بعض أفراد الحرس الحديدى بدأوا يفكرون فى اغتيال فاروق.
انقلب السحر على الساحر!
***
أما الرئيس السادات فإنه يتحدث فى كتابه "البحث عن الذات" عن علاقته بيوسف رشاد: فيقول إنها بدأت وتوثقت فى العريش أثناء خدمتهما هناك، وكانا لا يفترقان إلا وقت النوم، وبعد ذلك أصبح يوسف رشاد طبيبا فى الحرس الملكى وكان السادات مفصولا من الجيش فذهب إليه وطلب منه أن يساعده على العودة للخدمة، وفعلا توسط له يوسف رشاد عند حيدر باشا قائد عام القوات المسلحة، ويحكى السادات أيضا عن علاقته بحسين توفيق سنة 1945 فيقول إن السادات شكل "جمعية سرية" وإنه مع بعض أعضاء هذه "الجمعية" كانوا ينتظرون خروج النحاس باشا من جاردن سيتى إلى شارع قصر العينى حيث النادى السعدى ويروى السادات التفاصيل فيقول: كنت قد دربت أعضاء "الجمعية" على استعمال القنابل اليدوية، فألقى حسين توفيق قنبلة على سيارة النحاس، ولكن سائق النحاس فوجئ بعربة ترام تكاد تصطدم به فأسرع يتحاشاها فلم تصب القنبلة السيارة، وكان فارق السرعة ست ثوان لا أكثر، فعندما انفجرت القنبلة كان النحاس وعربته خارج منطقة الانفجار وأصابت الشظايا أتوبيس به فتيات تابعات للقوات البريطانية.. وكنت أنا وبعض أفراد الجمعية السرية فى مواقعنا نراقب العملية فانسحبنا فى هدوء وركبنا الترام إلى ميدان الإسماعيلية "ميدان التحرير الآن" حيث توجهنا إلى مقهى أسترا مكاننا المفضل الذى كنا نعقد فيه اجتماعاتنا. وفى نفس المقهى قررنا التخلص من أمين عثمان وكان أكثر من صديق للإنجليز ومساندا لبقائهم فى مصر بشكل لم يسبق له مثيل، وكان قد أنشأ نوعا من الحزب السياسى أطلق عليه اسم "رابطة النهضة" ومن مبادئها ارتباط مصر وانجلترا ارتباطا حتميا وأعلن أن مصر وانجلترا قد تزوجتا زواجا كاثوليكيا، وحتى لو تركتنا بريطانيا يتحتم علينا ألا نتركها. هذا التصريح كان بمثابة حكم الإعدام عليه. وفى يوم السبت 6 يناير 46 وأمين عثمان قد عاد من انجلترا قبل يومين وزار المندوب السامى البريطانى لورد كيلرن فى ظهر نفس اليوم، وفى المساء ذهب إلى مقر الرابطة، كان حسين توفيق فى انتظاره عند باب العمارة حسب الخطة، وقبل أن يصل إلى المصعد ناداه حسين "يا أمين باشا.. يا أمين باشا" فالتفت إليه أمين عثمان فأطلق عليه حسين الرصاص.. ويقول السادات إن حسين توفيق عندما تجمهر الناس للإمساك به "فجر قنبلة من قنبلتين يدويتين أعطيتهما له وأوصيته ألا يستعملهما إلا فى حالة الضرورة وبعيدا عن الناس وفعلا عمل بالوصية".. كنت فى هذه الأثناء أجلس فى مقهى قريب فقمت إثر سماعى الانفجار لأتأكد من عدم وجود ضحايا بين الأهالى فلما اطمأن بالى أخذت الترام وذهبت إلى بيتنا فى كوبرى القبة.
***
هكذا تحدث السادات عن "الجمعية السرية" وعن دوره فى اغتيال أمين عثمان بالتفصيل ومناوراته لإنكار التهمة فى التحقيقات وفى المحاكمة وشاركه فى ذلك محمد إبراهيم كامل الذى أصبح وزيرا للخارجية فى عهد السادات، وتحدث الرئيس السادات أيضا عن دوره فى محاولة اغتيال النحاس، وبذلك يعتبر كتابه (البحث عن الذات) وثيقة تاريخية بالغة الأهمية.
ويقول خالد محيى الدين فى مذكراته التى أصدرها مركز الأهرام للترجمة والنشر بعنوان (والآن أتكلم)، إن مجموعة الحرس الحديدى كانت بزعامة مصطفى كمال صدقى، وضمت عددا من الضباط منهم حسن فهمى عبد المجيد، وخالد فوزى، وسيد جاد، ويضيف: إن الملك كان فى منتصف الأربعينيات لم يزل محبوبا من قطاعات من الجيش، وكان البعض منهم يعتبر أن ولاءه للملك هو جزء من ولائه لمصر، وأنه يكمل عداءه للاستعمار ولعملاء الاستعمار. ومن هنا قام يوسف رشاد بإقامة علاقة مع بعض الضباط ومنهم مصطفى كمال صدقى ومجموعته المسماة "الحرس الحديدى". وكان القصر يحرك هذه المجموعة لارتكاب أعمال إرهابية ضد خصومه السياسيين بحجة أنهم عملاء للاستعمار، وفعلا قام الحرس الحديدى بأكثر من محاولة لاغتيال النحاس باشا. وكثيرا ما كان الملك يقدم نفسه لقطاع من الضباط بأنه وطنى ويريد تطهير البلاد من عملاء الاستعمار، وهكذا فإن مجموعة أخرى من الجيش، هى مجموعة أنور السادات، وكانت تضم فى أكثرها عناصر مدنية مثل حسين توفيق، وسعد كامل، وإبراهيم كامل، وغيرهم، قامت باغتيال أمين عثمان احتجاجا على قوله إن العلاقة بين مصر وبريطانيا هى علاقة زواج كاثوليكى.. وهناك كذلك الفريق عزيز المصرى، وكان شخصية مهيبة ومحترمة فى صفوف الضباط، وكان يمثل نقطة إشعاع للعمل الوطنى فى الجيش، لكنه لم يكن يؤمن بالعمل الجماعى المنظم الذى يستهدف تحقيق تحرك جماهيرى لتغيير الأوضاع، بل كان يركز أساسا على الاغتيال الفردى.. هذه هى شهادة خالد محيى الدين.
(هل تعلم الأجيال الجديدة أن فاروق كان يدير أكثر من فرقة للاغتيالات)؟