فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 18 )
قصة الحرس الحديدى تصلح لتكون فيلما سينمائيا..
تبدأ القصة مساء الاثنين 15 نوفمبر 1943، وفاروق يقود سيارته بنفسه بسرعة جنونية على طريق الإسماعيلية واصطدمت سيارته بسيارة لورى للجيش البريطانى. تحطمت سيارة فاروق ونجا من الموت بأعجوبة ولكنه أصيب بكسر فى الحوض، وتم نقله إلى أقرب مستشفى فكان مستشفى للجيش البريطانى عند مدينة القصاصين، وظل فى المستشفى ثلاثة أسابيع يعالجه أطباء الجيش الانجليزي وانتدب طبيب مصرى من القوات البحرية للإشراف على العلاج مع الأطباء الانجليز، وكان هذا الطبيب هو يوسف رشاد. ومكافأة ليوسف رشاد على تفانيه فى رعاية الملك فى مرضه أمر فاروق بنقله من سلاح البحرية ليعمل فى القصر ويصبح بذلك واحدا من الحاشية. ولم يكن يوسف رشاد وحده الذى استولى على إعجاب الملك، فقد شاركته الإعجاب زوجته ناهد التى اشتهرت باسم (ناهد رشاد) فقرر فاروق أن يلحقها هى الأخرى بالقصر وأصبحت أقرب النساء إلى قلب فاروق وأكثر الشخصيات تأثيرا عليه.
هذه هى البداية كما ذكرها فى مذكراته مرتضى المراغى باشا – آخر وزير داخلية فى عصر فاروق – وتكمل الدكتورة لطيفة محمد سالم أستاذة التاريخ المتخصصة فى دراسة عصر فاروق فتقول : إن يوسف رشاد تولى تأسيس الحرس الحديدى وشاركته زوجته ناهد رشاد التى أصبحت كبيرة الوصيفات، ومنحها الملك رتبة (صاغ) فى الجيش عند تطوعها للمساهمة فى معالجة الجرحى فى أثناء حرب فلسطين 1948 . وبعد طلاق الملكة فريدة أصبحت ناهد رشاد الوصيفة الخاصة لفاروق، وربطت العلاقة القوية بينهما حتى أن الأحلام راودتها فى أن تكون الملكة المقبلة، ولذلك عندما تزوج فاروق ناريمان انقلبت عليه فى داخلها واستمرت فى نفس الوقت تمارس تأثيرها القوى عليه وكان كثيرا ما ينصاع لها، وفى هذا الوقت قدمت مساعداتها إلى ضابط ثائر اسمه مصطفى كمال صدقى كانت تجمعها به علاقة عاطفية، - كما تذكر الدكتورة لطيفة محمد سالم أستاذة التاريخ الحديث- وعن طريق هذا الضابط تعرفت على بعض الضباط الأحرار من أصدقائه كانوا يقضون سهراتهم فى بيتها، وبالتالى استطاعت أن تقوم بخدمات كبيرة للضباط الأحرار!
***
تم تشكيل فرقة الاغتيالات بأمر من الملك فاروق وبإشراف يوسف رشاد وزوجته ناهد رشاد، وكانت نواة الحرس الحديدى مكونة من عدد من شباب الضباط المغامرين تتراوح أعمارهم بين الخامسة والعشرين والثلاثين على رأسهم مصطفى كمال صدقى، ومعهم موظف وضابط مطافئ برتبة ملازم. وانضم إليهم أنور السادات ومرتضى المراغى نفسه فيما بعد!. وطلب الملك منهم – عن طريق يوسف رشاد – اغتيال النحاس وأمين عثمان، ودفع إلى يوسف رشاد مبلغا كبيرا من المال لشراء ثلاث سيارات مستعملة فى حالة جيدة بأسماء مستعارة، وأعدت لها أرقام مزيفة، وشراء بنادق رشاشة وقنابل يدوية وديناميت. وكانت أول مهمة لهم اغتيال أمين عثمان (المعروف بأنه عميل للانجليز) ومن واقع تحقيقات النيابة كما سجلها لطفى عثمان المحرر القضائى للأهرام الذى كان يتابع التحقيقات والمحاكمة وسجلها فى كتاب بعنوان (المحاكمة الكبرى فى قضية الاغتيالات السياسية) فإن المجموعة نجحت فى اغتيال أمين عثمان كما يلى:
فى يوم 5 يناير 1946 وقفت سيارة أجرة أمام المنزل رقم 14 بشارع عدلى ونزل منها أمين عثمان باشا ودخل باب العمارة فى طريقه إلى نادى رابطة النهضة التى يرأسها، وما كاد يصعد السلم حتى برز شخص كان مترصدا له بالقرب من الباب الخارجى للعمارة وأطلق عليه النار فسقط يتضرج فى دمه، ثم خرج القاتل وسار فى الشارع ويداه فى جيوبه، وحين شعر بأن الناس تتجه نحوه أسرع الخطا ثم أخذ يعدو متجها نحو ميدان الأوبرا وقد أشهر مسدسه وظل يطلق الرصاص هنا وهناك، ولما أوشك مطاردوه أن يلحقوا به ألقى عليهم قنبلة يدوية فانفجرت وأصابت شظاياها بعضهم، وتوقف الباقون عن مطاردته وبذلك اختفى وسط فزع الناس.. ولم يستغرق كل هذا.. (القتل.. والمطاردة.. وإلقاء القنبلة) أكثر من عشر دقائق، بعدها جاءت سيارات البوليس، ونقل أمين عثمان إلى مستشفى مورو وأجريت له عملية لإخراج الرصاص من جسمه، ولكنه مات صباح اليوم التالى. هرع إلى مكان الحادث محمد السيد شاهين باشا محافظ القاهرة، واللواء رسل باشا حكمدار البوليس، واللواء سليم زكى باشا، والقائمام محمد إبراهيم إمام بك، والقائمقام أحمد عبد الرحمن بك مفتشا المباحث الجنائية، وأنور حبيب وكيل نيابة عابدين الذى باشر التحقيق تحت إشراف يحيى مسعود بك (الأفوكاتو العمومى) ولم يتمكن المحققون من استجواب أمين عثمان لأن حالته لم تسمح بذلك، وتم العثور على المسدس الذى استعمله القاتل وألقاه فى الطريق. وقال أحد الشهود بأنه شاهد حسين توفيق ابن وكيل وزارة المواصلات يقف بجوار شجرة قريبة من مكان الحادث كما أنه لاحظ وجوده قبل ذلك عدة مرات، فأصدر النائب العام أمره باعتقال حسين توفيق وتم القبض عليه فى بيته وهو يتناول العشاء مع أسرته! واعتقل أيضا شقيقه سعد وتم ضبط أسلحة فى البيت اقر حسين توفيق بأنها له ولا علاقة لأخيه بها، ولما سئل عن سبب كراهيته لأمين عثمان قال: لأنه موال للانجليز ويعتبر نفسه إنجليزيا أكثر منه مصريا. وعثر فى جيب حسين توفيق على ورقة يانصيب مكتوب على ظهرها: (أريد أن أراك لأنى سأذهب إلى مهمة خطيرة) وتحتها باللغة الانجليزية: (خلف الخطوط الأمامية) وحين سئل عنها فى التحقيق وفسر هذه العبارة بأنها موجهة إلى فتاة.
وبعد محاكمة طويلة استغرقت 82 جلسة وترافع فيها 35 محاميا واستمعت المحكمة فيها إلى شهادة عدد كبير من كبار السياسيين ورؤساء الحكومات ورؤساء الأحزاب والشهود صدر الحكم فى 24 يوليو 1948 – بعد عامين و7 شهور تقريبا من الحادث – وكان كما يلى: حسين توفيق – الأشغال الشاقة عشر سنوات. يحيى مراد ومحمود الجوهرى وعمر حسين أبو على والسيد خميس – السجن خمس سنوات. محجوب على محجوب ومدحت حسين فخرى وسعيد توفيق، ووسيم خالد، ومصطفى حبيشة – السجن ثلاث سنوات مع الشغل. محمود محمد كريم – الحبس سنتين مع الشغل – محمد على خليفة ومحمد عبد الفتاح الشافعى – الحبس سنة مع الشغل – أحمد خيرى عباس – الحبس شهرا مع الشغل للتعدى على الكونستابل. براءة أنور السادات، ومحمد إبراهيم كامل، وسعد الدين كامل، ونجيب فخرى، ومرشدى عزيز دياب، وخليل الحلوانى، وكامل الواحى، وعبد الهادى مسعود، وجول أسود، وأنور فائق. وإلزام 16 منهم بدفع خمسة آلاف جنيه تعويضا لابنة أمين عثمان، وخمسة آلاف جنيه تعويضا لزوجة أمين عثمان.
هذه كانت بداية نشاط الحرس الحديدى.
بعد ذلك أمر فاروق (الحرس الحديدى) باغتيال النحاس، وكان يتربص به منذ البداية – لمعارضته لكثير من رغبات فاروق الطائشة ولتمسك النحاس بالدستور واستهانة فاروق بالدستور وبالقوانين وبالرجال- وفى 8 أكتوبر 1944 انتهز فاروق حالة الغلاء فى ظل حكومة النحاس المنتخبة ووجه إليه خطابا عنيفا – خاليا من الذوق – قال فيه: لما كنت حريصا على أن تحكم بلادى وزارة ديمقراطية تعمل للوطن وتطبق أحكام الدستور نصا وروحا، وتسوى بين المصريين جميعا فى الحقوق والواجبات، وتقوم بتوفير الغذاء والكساء لطبقات الشعب، فقد رأينا أن نقيلكم من منصبكم.. و.. ) وتنفيذا لأمر فاروق تربص ثلاثة من أعضاء الحرس الحديدى للنحاس، وأطلقوا عليه النار من مدفع رشاش وهو خارج من بينه، فجرح حارسان ولم يصب النحاس – وهرب الجناة – وكان تعليق فاروق لناهد رشاد: هم كانوا حاشيين الرشاشات إيه؟ شيكولاتة؟!!
وكرر الحرس الحديدى المحاولة. ذهبوا فى سيارة مملوءة بالديناميت وأوقفوها أمام منزل النحاس وتركوها وركبوا سيارة أخرى. بعد ربع ساعة انفجرت قنبلة موقوتة داخل السيارة وتطايرت الشظايا وحطمت سور البيت، ودخلت شظية غرفة نوم النحاس ووصلت إلى سريره وهو نائم ولكن النحاس لم يصب بأذى، ونشرت صحف أخبار اليوم صورة الشظية عالقة على (الناموسية) التى تغطى السرير الذى كان النحاس نائما عليه! وقال الناس: إن النحاس ولىّ من أولياء الله!.
والمهمة الثالثة للحرس الحديدى كانت تفجير مخزن الذخيرة فى القلعة، بانفجار قنبلة زمنية داخل المخزن بين المواد المتفجرة.. وتبين من التحقيق أن قائد المخزن والضباط والحراس وعددهم خمسون بين ضابط وجندى لم يكونوا موجودين وقت الانفجار، وقال كل منهم فى التحقيق إنه كان خارج المعسكر لسبب أو آخر، ورفض قائد المعسكر أن يدلى بأقواله أمام رئيس نيابة القاهرة، ويقول مرتضى المراغى-وكان وقتها مدير الأمن العام – (ولم يبق مجال للشك فى أن القصر و الذى دبر الانفجار هادفا إلى محو آثار فضيحة الأسلحة الفاسدة التى كانت مثار تحقيق السلطات القضائية، وقد قيل فعلا لهذه السلطات بعد الانفجار: إن الأسلحة التى تريدون التحقيق فى شأنها قد دمرت عن آخرها، وبذلك ضاعت معالم الجريمة، وغطى الحادث بستار رهيب، وتوصل القصر إلى تحقيق مآربه، فأقفلت النيابة التحقيق، ودفنت قضية الأسلحة الفاسدة، ولو أن الروائح العفنة ظلت تفوح زمنا طويلا.
(ولا يزال للحديث بقية عن الحرس الحديدى، وعن جريمة الأسلحة الفاسدة).