فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 17 )
يختلف المؤرخون فى رؤيتهم ليوم 4 فبراير. أنصار الوفد يرون أن قبول النحاس تشكيل الوزارة كان إنقاذا للعرش وللبلاد من الفتنة مع أن ذلك كان بناء على الإنذار البريطانى بخلع الملك فاروق إذا لم يكلف النحاس، والدبابات البريطانية تحاصر القصر. وخصوم الوفد يرون أن النحاس أخطأ بقبول تشكيل الوزارة تحت حراب الاحتلال البريطانى كما قال له أحمد ماهر. البعض يلتمس للملك الأعذار، والبعض الآخر يوجه الاتهامات لفاروق لأنه أوصل الأمور إلى هذا الحد الذى يمثل إهانة للعرش وللبلاد.. وفى كتاب جميل ملىء بالأسرار والتفاصيل يروى محمد التابعى خلفيات هذا الحدث التاريخى ويحكى بدقة كل ما جرى قبله وبعده. ومحمد التابعى كان فى هذا الوقت على قمة الصحافة والسياسة فى مصر.. كان قريبا من الملك، ومن الحاشية وخصوصا أحمد حسنين الذى كان صديقا شخصيا له وكان يفضى إليه بأسرار القصر دون احتياط، وبعد ذلك حكى الكثير بما لديه فى كتاب بعنوان "أحمد حسنين باشا" أصدرت دار الشروق مؤخرا طبعة جديدة له.
كتب مقدمة هذه الطبعة الجديدة الأستاذ محمد حسنين هيكل وقال فيها إنه يعتبر التابعى من أساتذته الكبار وأستاذا لكثيرين غيره من نفس الجيل، وقد عمل معه حين كان التابعى صاحب ورئيس تحرير مجلة آخر ساعة وبذلك كان آخر قائمة طويلة من الشباب "وقتها" تتلمذوا عليه، ويقول هيكل إن التابعى صاحب مدرسة ووصل تأثيره إلى درجة أن ما بعده يختلف عما كان قبله. ويضيف: لقد حاولت وحاولنا جميعا -جيلا بأكمله- أن نتعلم من التابعى وكنت أسعدهم حظا لأنى حضرت فترة الوهج المهنى والسياسى والاجتماعى، وقد كتب التابعى عن الملك فاروق، وعن الملكة نازلى، وعن أحمد حسنين، وعن غيرهم من موقع المعايشة، وفى بعض المشاهد كان هو نفسه جزءا من الصورة.
يقول التابعى إن السفير البريطانى كان يلح قبل 4 فبراير على تشكيل حكومة برئاسة النحاس ولكن أحمد حسنين كان يناور.. فاجأ السفير بالأمر الواقع وتعيين حسن صبرى رئيسا للوزارة، وبعد موت حسن صبرى فاجأ السفير مرة أخرى بالأمر الواقع وتعيين حسين سرى رئيسا للوزارة، ولكنه أخطأ فى الحساب، لأن الجيش الألمانى يشن هجوما عنيفا فى الصحراء الغربية، وهزائم الجيش البريطانى تتوالى، ومواقعه الحصينة تسقط تباعا فى أيدى الجيش الألمانى. والنحاس يخطب ضد الإنجليز، والرأى العام فى مصر هائج ضد الإنجليز، وفى العراق حدث انقلاب قاده رشيد عالى الكيلانى واضطر الوصى على العرش الأمير عبد الله أن يغادر بغداد ويلجأ إلى البصرة، ونورى السعيد يغادر بغداد ويلجأ إلى القاهرة لأن الانقلاب كان ضد الإنجليز وأعوانهم فى العراق. وخشى الإنجليز أن تمتد هذه النار إلى مصر ويحدث فيها ما حدث فى العراق فتكون هذه هى الضربة القاضية على خطوط مواصلاتهم الخلفية بينما هم يحاربون القوات الألمانية، والمصرى الوحيد الذى كان يعلم بما ينوى الإنجليز عمله هو أمين عثمان، ولعلهم استشاروه أو لعله هو الذى أشار عليهم بما يفعلونه.
***
يصل التابعى إلى التأكيد على أن النحاس ومكرم عبيد كانا بريئين تماما من تدبير حادث 4 فبراير. وعقد كبار الإنجليز فى مصر مجلسا برئاسة مستر ليتلتون وحضور السفير ما يلز لامبسون وكبار قادة الجيش البريطانى فى مصر، وفى هذه الجلسة تقرر تقديم الانذار البريطانى إلى فاروق بوجوب تكليف مصطفى النحاس بتشكيل الوزارة وإلا عليه أن يتحمل النتائج، وحاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين وفيه الملك وأسرته وحاشيته- وكان الجنود قد هاجموا حراس القصر وجردوهم من السلاح، وقاوم بعض أفراد الحرس ولكن البريطانيين تكاثروا عليهم وأصيب بعض جنود الحرس بكسور فى العظام وبجروح مختلفة، وصدر أمر من القصر إلى رجال الحرس بعدم المقاومة حتى لا تحدث مذبحة أمام قصر عابدين. وفى نفس الوقت كانت الطائرات البريطانية فى وضع الاستعداد للتحليق فوق ثكنات الجيش المصرى ومعسكراته وقذفها بالقنابل إذا بدرت مقاومة من الجيش، وحاصر الجنود الإنجليز أقسام البوليس فى القاهرة، وقطعوا أسلاك التليفونات بين قصر عابدين والخارج، وحاصروا محطة الإذاعة المصرية لكى يمنعوا وصول الخبر إلى الشعب. واستسلم فاروق ووافق على تكليف النحاس فورا ولكن الدبابات البريطانية ظلت تحاصر القصر وثكنات الحرس. ومنعت الرقابة نشر أى خبر عن هذا العدوان كما منعت إرسال أية برقية فى هذا الموضوع.. وقال فاروق لرجال حاشيته عقب الحادث: يظهر أن الإنجليز بعد ان خسروا معركة بنى غازى أرادوا أن يكسبوا "معركة عابدين"! وكان الجيش البريطانى قد أخلى مدينة بنى غازى وتراجع أمام جيش روميل.
يروى التابعى حكايات تدل على أن الإنجليز كانوا قد ضاقوا بانحياز السياسيين وفاروق نفسه إلى الألمان، وحتى عندما كان على ما هو رئيسا للوزارة كان يجاهر برأيه فى أن هزيمة إنجلترا ستكون نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم تعد الحكومة المصرية لم تنفذ بنود معاهدة 1936، ولم يكن حادث 4 فبراير نتيجة قرار أو سياسة اتخذت فجأة وتحت ضغط داهم. ولكنه كان الفصل الأخير لسياسة مرسومة كانت تشمل عزل فاروق وفكرت بريطانيا اختيار حفيد الخديو عباس حلمى- ابن الأمير محمد عبد المنعم- وكان لا يزال طفلا رضيعا وأن يكون الوصى على العرش هو الخديو السابق عباس حلمى. وفعلا فاتحوه فى ذلك ووافق. يقول التابعى: لم يكن الساسة المصريون وحدهم الذين يؤمنون بانتصار ألمانيا ومحورها، فقد كان هناك مثلهم فى فلسطين والعراق وسوريا، بل وفى أسبانيا والبرتغال وسويسرا والسويد، وفى الهند، بل وفى فرنسا نفسها كان يوجد كثيرون يؤمنون بأن النصر لدول المحور، وفى جميع هذه الدول كان يوجد ساسة ويرون أن يؤيدوا المحور ويعملوا معه لكى يضمنوا السلامة والاستقلال لبلادهم يوم يتم النصر للمحور، وهكذا لم يكن المصريون يحبون المحور من أجل سواد عينيه، ولكنهم كانوا يعملون لما يعتقدون بإخلاص أنه فى مصلحة مصر.. وكان الإنجليز يعتقدون أن فى مصر محطات لاسلكية سرية لاستقبال وإرسال الرسائل من مصر إلى وكلاء المحور وسلطاته الحربية عن أسرار القوات البريطانية. وكان هتلر قد سحق أوروبا من النرويج إلى اليونان، ومن شاطئ الأطلنطى إلى نهر الغربى فى روسيا وجبال الأورال، ووصل جيوش روميل إلى حدود مصر الغربية. وباختصار كانت أعصاب الإنجليز متوترة، وكانت الحكومة البريطانية تخشى أن يقع فى مصريين انقلاب كالذى وقع فى العراف ويخرج الأمر نهائيا من أيدى الساسة المصريين أصدقاء بريطانيا، وكانت تقارير المخابرات البريطانية تذكر أن ساسة مصريين يترقبون الفرصة للقيام بانقلاب لإخراج البريطانيين فى الوقت الذى يشن فيه روميل هجومه على مصر، ويضطر البريطانيون إلى توزيع قواتهم بين الداخل فى مصر وميدان القتال فى الصحراء الغربية وتضطرب خطوط التموين والمواصلات.. وكانت تقارير المخابرات البريطانية تذكر أيضا أن رواد المقاهى فى الأحياء الشعبية يجتمعون حول اجهزة الراديو وينصتون لإذاعات المحور باللغة العربية وخصوصا محطة برلين.
***
وكان الإنجليز يرون أن الحل الوحيد أن يتولى الوفد الحكم، ويعتقدون أن النحاس هو وحده الزعيم القادر على تحويل عواطف الشعب من الاتجاه إلى ألمانيا إلى الاتجاه إلى بريطانيا وحلفائها. وبعد 4 فبراير أحس الوفديون أنهم بفضل توليهم الحكم بعد حرمانهم منه زهاء أربع سنوات وهم حزب الأغلبية مدينون لبريطانيا وليس لفاروق ولا أحمد حسنين. ولذلك قال أحمد حسنين للتابعى: القلم كان جامد يا محمد.. لسه بيرن على صدغى.. وقال له أيضا إنه اقتنع بعد بحث طويل بأن النحاس ومكرم عبيد بريئان من تهمة التواطؤ مع الإنجليز على ما حدث يوم 4 فبراير. ومع ذلك فقد أقسم أحمد حسنين أمام الملك على الانتقام من السفير البريطانى ما يلز لامبسون ومن النحاس.
وقيل إن أحمد حسنين كان على علم بما سيفعله الإنجليز فى ذلك اليوم، بل قال البعض إنه تآمر مع الإنجليز من وراء ظهر الملك، ولكن محمد التابعى يقطع بأن ذلك غير صحيح، ويستشهد بجلسة مع أحمد حسنين فى بيته لمس فيها المرارة التى يشعر بها وبأنه يعلم أن الشامتين فيه كثيرون داخل القصر وخارجه وبدأوا يعلنون صراحة أنه لا يصلح لمنصب رئيس ديوان الملك، بل إن على ماهر سأل بعض أصدقاء أحمد حسنين بلهجة اصطنع فيها الدهشة: كيف أن حسنين لم يستقل من منصبه حتى الآن؟
ونجح أحمد حسنين فى إحداث الوقيعة بين النحاس وساعده الأيمن "مكرم عبيد" ومشجعه على إعداد الكتاب الأسود كما شجعه الملك فاروق، وكان هذا أكبر تصدع فى حزب الوفد مع أن النحاس أدرك اللعبة مبكرا وقال مكرم عبيد: "يا مكرم خد بالك.. عاوزين يفرقوا بيننا" ولكن مكرم عبيد ابتلع الطعم، وأغراه التلويح له بأنه سيكون رئيسا للوزراء. فكتب مقالا فى الأهرام يوم 13 مارس 1942 بعد مقابلته للملك وكان مكرم وقتها وزيرا للتموين والمالية- وقال فى هذا المقال: لقد وجدت من الملك إطلاعا واسعا وإرشادا نافعا ونظرة دقيقة وعميقة إلى جوهر المسائل المعروضة رغم تباينها، فلم ألبث طويلا حتى أدركت أن ملكنا الشاب قد ملك زمام الأمور بفضل ما أوتى من رجولة مبكرة وخبرة منوعة نادرة قلما أتيحت لملك من الملوك، فقد أتيح لى فى هذه المقابلة الملكية السامية أن أعرف الرجل الملك فكان الرجل فى رجولته لا يقل جلالة عن الملك فى مملكته، وقد تفضل جلالته فأكد لى فى بساطة وديمقراطية أنه ملك للجميع، لا يفرق بين الطوائف أو الأحزاب أو الطبقات فى شعبه الوفى، وقد خرجت من لدنه وهذا اعتقادى، بل وتقينى!
هكذا كان حادث 4 فبراير زلزالا كبيرا جدا فى الحياة السياسية وكانت له توابع، وكانت النتائج بعد ذلك تحولا. يقول التابعى إنه قابل النحاس فى نفس يوم نشر المقال وقال له النحاس: ده كلام ما يكتبوش إلا العبيد.. وبدأت قصة الانشقاق الكبير برعاية فاروق.. ولم يكن يدرك أنه فى النهاية سيكون هو ضحية الصراعات والفساد والمؤامرات.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف