فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 16 )
كان لحادث 4 فبراير 1942 آثار استمرت فى الحياة السياسية فى مصر لسنوات طويلة. المؤرخ الكبير الدكتور محمد أنيس له دراسة عن هذا الحادث فى كتابه (4 فبراير 1942 فى تاريخ مصر السياسى) أصدرته المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1972- وفى رأيه أن هذا اليوم الذى اقتحم فيه المندوب السامى البريطانى قصر عابدين، وفرض على الملك فاروق تعيين النحاس رئيسا للوزراء، والدبابات البريطانية تحاصر القصر وتقتحم ساحته الداخلية، كانت أهم نتائجه زيادة قـوى اليمين ممثلة فى جماعة الإخـوان (التى لم تكن محظـورة) وإضعـاف اليسار ممثلاً فى الجماعات الماركسية، وسقوط الوسط ممثلا فى الليبرالية الديمقراطية، وأدى الاعتداء البريطانى على كرامة الملك إلى صعود شعبية فاروق لدى الشعب والجيش، لكن ذلك الصعود انتهى ابتداء من عام 1946 بعد أن تحول فاروق إلى التبعية لسلطات الاحتلال، وبعد الأخطاء التى تسبب بها فى نكبة حرب 1948 فى فلسطين، ثم وقوفه ضد المطالب الشعبية. ويرى الدكتور محمد أنيس أن الأحداث التى سبقت هذا اليوم مهدت له وأعدت المسرح لهذا السيناريو الصادم للمشاعر الوطنية. ففى شهر يناير 1942 كان رئيس الـوزراء حسين سـرى باشا صديقا للإنجليز ويستجيب لكل مطالب سلطات الاحتلال إلا أن الأزمات تجمعت على هذه الوزارة، وكان أشدها خطرا أزمة التموين وفى الخبز بالذات، واشتدت الأزمة فى الأسبوع الأخير من يناير حتى أن الناس هاجمـوا المخابـز وكانوا يتخطفـون الرغيف ممن يحملونه فى الشوارع. و هكذا كانت الظروف مهيأة للتدخل البريطـانى مع اهتـزاز وضـع الحكومـة.
وهكذا نرى أن الذين ادعوا بأن عصر فاروق كان عصر الرخاء للشعب المصرى ارتكبوا جريمة تزوير التاريخ دون حياء، فقد شهد حكمه فترات من الأزمات الاقتصادية حتى جاء وقت لم يكن الناس يجدون الرغيف إلا بشق الأنفس!
ويقول الدكتور محمد أنيس إن بريطانيا كانت تريد وزارة شعبية ترضى عنها الجماهير وتستطيع أن تحكم قبضتها فى وقت سارت فيه مظاهرات الطلبة تهتف (إلى الأمام يا رومل) مما كان يهدد وضع القوات البريطانية فى مصر بينما القوات الألمانية على الأبواب. وكان فاروق يجرى اتصالات مع الألمان عن طريق يوسف ذو الفقار سفير مصر فى إيران (والد الملكة فريدة) عن طريق سفير ألمانيا هناك، وكان واضحا أن بريطانيا تعد للتخلص من فاروق وتعيين ولى العهد الأمير محمد على ملكا وهو صديق الإنجليز ويمكن لبريطانيا أن تطمئن إلى ولائه التام.. وقد جعلت أحزاب المعارضة من حادث 4 فبراير فرصة لطعن الوفد، وفى الاجتماع الثانى لزعماء الأحزاب الذى رأسه فاروق وأعلن فيه قبوله الإنذار البريطانى وكلّف النحاس بتشكيل وزارة وفديه.. قال أحمد ماهر باشا جملته المعروفة إن النحاس (يتولى الحكم على أسنة الرماح البريطانية).
***
كانت عملية اقتحام قصر عابدين بالدبابات البريطانية عملية عسكرية بدأت بإغلاق كل الطرق المؤدية إلى القاهرة تحسبا من رد فعل محتمل من الضباط الصغار فى الجيش المصرى الذين لا يحبون الملك فاروق ولكنهم قد يرون فى هذا الاقتحام إهانة ويكون رد فعلهم عنيفا- وهذا ما كتبه الماجور سانسوم المسئول عن أمن القوات البريطانية فى مصر فى كتاب أصدره فى لندن عام 1965 بعنوان Ispiedspies وقال فيه أيضا (إن فصيلة من القوات البريطانية قامت بالهجوم على ثكنات الحرس الملكى فى ميدان عابدين وقبضت على الموجودين فيها، وكذلك قبض على الحراس الذين كانوا يقفون عند أبواب القصر وحل محلهم جنود بريطانيون، ثم دخل السفير سير مايلز لامبسون فى عربته الرولز رويس ومعه مجموعة من العربات المصفحة والدبابات.. وبينما كان السفير يقدم إنذاره لفاروق كنت أقوم بمهمتى فى التأكد من أن السفير لن يصيبه ضرر، وكنت أعتقد أن الخطر الرئيسى قد يصدر من أحد ضباط الحرس الملكى وقد يدفعه غضبه إلى إطلاق رصاصة على السفير، لذلك قبضنا على جميع الضباط المصريين داخل القصر أثناء اجتماع السفير مع فاروق، وكانت الخطة أن تتم العملية بسرعة وبشكل مباغت مع عدم الاصطدام بالشعب بأى شكل وكذلك عدم الاصطدام بالجيش المصرى، وهذا ما جعل العملية على أعلى مستوى من السرية والسرعة والمباغتة.
كان الإنجليز يخشون غضب صغار الضباط لمشاعرهم الوطنية، أما كبار الضباط والقادة فكان معظمهم من أعوان الإنجليز، وقد كتب اللورد ويلسون أحد القادة البريطانيين الكبار للشرق الأوسط يشيد بالخدمات الجليلة التى أداها إبراهيم عطا الله رئيس هيئة أركان حرب الجيش المصرى ويقول فى تقرير له: (لولاه لحدثت أحداث كبيرة وخطيرة داخل الجيش المصرى نتيجة 4 فبراير). والميجور سانسوم المسئول عن أمن القوات البريطانية فى مصر يذكر فى مذكراته أن حجازى مدير المخابرات العسكرية المصرية كان متعاونا مع السلطات البريطانية إلى أكبر حد)، أما صغار الضباط بحكم أصولهم الاجتماعية فكانوا عناصر وطنية شديدة الحماسة لقضية تحرير بلادهم من الاحتلال البريطانى تحت تأثير معلمهم الكبير الفريق عزيز المصرى الذى تولى منصب رئيس الأركان من عام 1939 إلى 1940، وهو المعروف بميوله نحو الألمان وكراهيته للاحتلال الإنجليزى وللإنجليز عموما. ولذلك كانت تنحيته من منصبه بناء على طلب الإنجليز. ويذكر الميجور سانسوم أن أنطون بوللى كان يقول للضباط البريطانيين أثناء عملية الضغط على فاروق يوم 4 فبراير: (لقد خسرتم صديقكم الوحيد فى مصر وستندمون على ذلك حين تحتاجون إليه) ويقصد فاروق طبعا، ولكن أحد الضباط الإنجليز قال له: (بل هو الذى سيحتاج إلينا لحماية عرشه) كما ذكر الميجور سانسوم.
خسر فاروق كثيرا بعد حادث 4 فبراير.. خسر العلاقة التى كان يجب أن تكون بينه وبين حزب الوفد وهو حزب الأغلبية، واعتمد بعد ذلك على أحزاب الأقلية التى أساءت إليه وإلى البلاد وقامت بينها حرب أهلية للوصول إلى الحكم والمبالغة فى إرضاء الملك وتملقه وكان ذلك ضمن عوامل إفساده، وخسر نفسه فى النهاية لأن شعوره بالإهانة جعله يتحول شيئا فشيئا إلى تجاهل الشعب والاستغراق فى اللهو والقمار، وإن كان قد كسب تعاطف صغار الضباط بدافع الكرامة الوطنية إلا أنهم سرعان ما تحولوا إلى كراهية له ولحكمه بعد أن انتشر الفساد وشاعت فضائحه، وتكونت منهم خلايا كانت نواة نشأة تنظيم الضبابط الأحرار بقيادة عبد الناصر سنة 1949، وفى أثناء أحداث 4 فبراير كان عبد الناصر فى السودان من ديسمبر 1939 إلى مارس 1942.
***
هل كان النحاس يعلم مسبقا بما ستقوم به قوات الاحتلال البريطانية من اقتحام القصر؟ النحاس نفسه كرر فى الاجتماع الأول الذى عقده فاروق مع زعماء الأحزاب أنه لم يكن يعلم بهذا الأمر وقال إنه لا يتلقى أمرا بتأليف الوزارة إلا من الملك، ومع ذلك فإنه حذّر المجتمعين بأنه يشم رائحة الخطر فى صيغة الإنذار، وفى الاجتماع الثانى كان النحاس أول الموقعين على رد الزعماء برفض الإنذار البريطانى، وقد عاد النحاس بعد ذلك فى خطابه يوم 13 نوفمبر 1945 لتأكيد أنه لم يكن يعلم شيئا عن الإنذار البريطانى لفاروق، ولكن الصحافة الحزبية المعارضة للوفد ظلت تستخدم حادث 4 فبراير 1942 لطعن الوفد وزعيمه النحاس، وكانت الحملة على الوفد عبارة عن (مقالات متشنجة والأحزاب المعادية للوفد فشلت فى أن تقدم دليلا على إدانة الوفد أو مصطفى النحاس) وهذا ما توصل إليه الدكتور محمد أنيس فى دراسته عن 4 فبراير، ولكن الأستاذ محمد حسنين هيكل له رأى آخر ذكره فى حديثه على قناة الجزيرة يوم 13 مارس 2008 وملخصه أن النحاس لابد أن يكون على علم بما سيحدث ووافق عليه لأن البريطانيين لا يمكن أن يقدموا على خطوة خطيرة كهذه تصل إلى حد تقديم طلب للملك للتنازل عن العرش إذا لم يخضع لإرادة الحكومة البريطانية بتكليف النحاس بتشكيل الوزارة إذا لم يكونوا واثقين من أن النحاس سوف يقبل تشكيل الحكومة، وإلا ماذا كان يمكن أن يكون موقف بريطانيا العظمى بعد اقتحام دباباتها القصر وتقديم وثيقة التنازل ثم يرفض النحاس تشكيل الوزارة فى ظل الدبابات البريطانية؟ هذا ما ذكره الأستاذ محمد حسنين هيكل فى حديثه فى قناة الجزيرة ويتفق فيه مع رأى الأستاذ العقاد الذى كتبه فى صحيفة الكتلة 30 نوفمبر 1945 وما قاله إسماعيل صدقى رئيس الوزراء الأسبق (صحيفة الكتلة 23 نوفمبر 1945) وما ألمح إليه الدكتور محمد حسين هيكل فى مذكراته حين ذكر (أن النحاس حين انبرى ليقول إنه لم يكن يعلم بالإنذار وإنه يحتج على زج اسمه فى هذا الإنذار (علت الابتسامة وجوه الحاضرين). كذلك من المعروف حين اجتمع فاروق بالسفير البريطانى فى ليلة 4 فبراير- وكانت الدبابات تحيط بالقصر- نظر فاروق إلى أحمد حسنين قائلاً: (يبدو أن النحاس كان واثقا من الأرض التى يقف عليها). ولكن النحاس كرر عدم معرفته بأمر الإنذار سواء فى الاجتماعين اللذين عقدهما فاروق مع زعماء الأحزاب يوم 4 فبراير، أو فى خطابه الشهير فى 13 نوفمبر 1945 عن الحادث، أو حين ذهب إلى المحكمة كشاهد فى قضية مقتل أمين عثمان. وفى رأى الدكتور محمد أنيس أن المرجح أن النحاس لم يكن يعرف نية الإنجليز فى توجيه الإنذار إلى الملك، وكان فى هذا الوقت فى جولة فى الصعيد وتم استدعاؤه على عجل حتى أنه نسى مفاتيح منزله مما اضطره إلى المبيت فى منزل صهره عبد الواحد الوكيل، واضطر إلى استعارة بدلة رسمية ليذهب بها إلى القصر للاجتماع الذى دعا إليه الملك.. وإن أغلب الظن أن النحاس حين استدعى من الصعيد كان يجول فى خاطره أن فكرة الوزارة الائتلافية عادت إلى الأذهان مرة أخرى، وهنا يأتى دور أمين عثمان الذى كان يطلق عليه لورد ويلسون (المفاوض لحساب السفارة البريطانية وقت الأزمات السياسية) والمعروف أن أمين عثمان التقى بالنحاس أكثر من مرة بعد عودته من الصعيد.
والخلاصة التى توصل إليها المؤرخ الكبير الدكتور محمد أنيس أن قبول الوفد للحكم (تحت أسنة رماح الإنجليز كما قال أحمد ماهر) إنما كان بدافع حرصه على هزيمة النازية فى الحرب انطلاقا من عقيدته الليبرالية وحرصه على الديمقراطية والدستور، على الرغم من الشكل القبيح لهذا الحادث. ولكن مع الزمن تلاشى المضمون وبقى الشكل القبيح، ويقول الدكتور أنيس أيضا: إن الوفد كان دائما أكثر وطنية عندما يكون فى المعارضة.
ويتفق أكثر المؤرخين على أن عقدة 4 فبراير غيّرت كثيرا شخصية فاروق وأنه بدأ بعدها طريق الاستهتار والفساد والجشع.