فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 15 )
يوم 4 فبراير 1942 يوم لا يُنسى فى تاريخ مصر السياسى. هذا اليوم تسبب فيما أسماه مرتضى المراغى- وزير الداخلية فى أواخر عهد فاروق- (عقدة 4 فبراير) والمؤرخون يعتبرون عقدة 4 فبراير نقطة تحول بالنسبة للملك فاروق، وللحياة السياسية، وللأحزاب، وللشعب المصرى كله.. كانت مصر تعيش بين المطرقة (الاحتلال البريطانى) والسندان (الضغوط عليها لكى تعلن دخول الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء). وكانت القوات الألمانية تجتاح أوربا واحتلت بلجيكا وهولندا وفرنسا، وتحطمت القوات البريطانية فى دنكرك، واستولت إيطاليا على إريتريا والصومال، ودخلت اليابان الحرب واستولت على ماليزيا وبورما وسنغافورة.
ولم يكن لدى الملك فاروق شك- ومعه على ماهر مستشاره الأول- فى أن الحرب على وشك أن تنتهى بانتصار محور ألمانيا- إيطاليا على بريطانيا والحلفاء. وكان يردد عبارات السخرية ببريطانيا فى مجالسه وفى القصر حاشية كبيرة من الإيطاليين يعملون جواسيس للمحور ويرسلون رسائل لاسلكية بالشفرة إلى إيطاليا تكشف مواقع الحلفاء وتحركاتهم. ووقف شيخ الأزهر- الشيخ مصطفى المراغى- على منبر الأزهر ليقول علنا رفض إعلان مصر الدخول فى هذه الحرب وقال فى خطبته إن هذه الحرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وطلب أن تعلن القاهرة مدينة مفتوحة لكثرة الأماكن المقدسة فيها فلا تغير عليها طائرات المحور. وهكذا تجمعت سحب الأزمة الكبرى. هكذا يروى مرتضى المراغى الأحداث فى مذكراته التى أصدرت دار المعارف طبعة جديدة لها. ويكمل روايته فيقول إن ألمانيا وإيطاليا أعلنتا موافقتهما على جعل القاهرة مدينة مفتوحة- أى على الحياد- وذهب السفير البريطانى مايلز لامبسون إلى رئيس الوزراء- حسين سرى- يحتج على خطبة شيخ الأزهر، وعاتب رئيس الوزراء شيخ الأزهر لأنه أعلن موقفا سياسيا دون عرض على الحكومة، لكن شيخ الأزهر تمسك بموقفه، فاستقال رئيس الوزراء، وشكّل على ماهر الوزارة واختار صالح حرب باشا وزيرا للحربية وكان يكره الإنجليز. ومنذ الأسبوع الأخير من يناير 1942 شهدت القاهرة مظاهرات تنادى بسقوط الإنجليز وتهتف (تقدم ياروميل) وروميل هو قائد القوات الألمانية الذى دخل بقواته الأراضى المصرية ووصل إلى العلمين. ورأى الإنجليز أن فى كل ذلك خطورة على وجودهم فى مصر فى هذا الوقت العصيب وأن الوسيلة الوحيدة لتأمين وجودهم تشكيل وزارة يرأسها زعيم له أغلبية شعبية تحبه الجماهير، ولم يكن ذلك ينطبق إلا على النحاس، فقام السفير البريطانى سير مايلز لامبسون (الذى اشتهر باسم اللورد كليرن) بإبلاغ الملك فاروق رغبة بلاده فى أن يتولى النحاس رئاسة الوزراء. وتلبية للمطلب البريطانى استقبل فاروق النحاس باشا وطلب منه تشكيل وزارة (ائتلافية) تشترك فيها الأحزاب الأخرى. لكن النحاس رفض بإصرار فكرة الوزارة الائتلافية وتمسك بأن تكون الوزارة كلها وفدية.
???
فى اليوم التالى (4 فبراير) استدعى السفير البريطانى رئيس الديوان الملكى (أحمد حسنين) وسلمه إنذارا جاء فيه: (إذا لم أسمع قبل الساعة السادسة مساء أن النحاس باشا قد دعا لتأليف الوزارة فإن جلالة الملك فاروق يجب أن يتحمل ما يترتب على ذلك من نتائج). استدعى الملك رؤساء الأحزاب وكبار الشخصيات السياسية للاجتماع فى الساعة الرابعة مساء نفس اليوم (الأربعاء 4 فبراير) وعرض عليهم الإنذار، فأعلنوا احتجاجهم على هذا الأسلوب الاستفزازى وما فيه من اعتداء على السيادة المصرية وطلبوا من النحاس قبول تأليف وزارة ائتلافية فكرر رفضه، وانتهى هذا الاجتماع بإصدار بيان من الزعماء أعلنوا فيه أن توجيه الإنذار البريطانى إلى الملك يمثل اعتداء على استقلال البلاد، وأنه يجب على الملك ألا يقبل ما يمس استقلال البلاد. وحمّل رئيس الديوان الملكى هذا البيان إلى السفير البريطانى. فى التاسعة مساء توجه السفير البريطانى إلى قصر عابدين، وقبل وصوله تقدمت الدبابات البريطانية وأحاطت بالقصر. واقتحمت دبابة أحد أبواب القصر وخلعته وتجمعت الدبابات فى فناء قصر عابدين، ثم دخلت سيارة السفير الرولزرويس ومعه وزير الدولة البريطانى (مستر ليتلتون) وقائد القوات البريطانية فى مصر (الجنرال ستون). وقال السفير للملك فاروق: (لقد كلفتنى الحكومة البريطانية أن أطلب منك التخلى عن العرش وأن تجمع حقائبك للسفر) وكان رد فاروق: إلى أين؟ وأجاب السفير: جنوب أفريقيا. قال فاروق: أرجو أن تعطينى فرصة وسأجيب جميع طلباتك. ويبدو أن الوزير البريطانى همس فى أذن السفير لإعطاء الملك هذه الفرصة، فقال السفير: إن مثل هذا القرار يجب أن أعود فيه إلى رئيس وزراء بريطانيا (ونستون تشرشل) وبالفعل أرسل السفير برقية إلى رئيس الوزراء وجاء الرد بموافقة تشرشل على إعطاء الملك فرصة لتلبية ما تطلبه بريطانيا. وعلى الفور صدر المرسوم الملكى بتكليف النحاس بتشكيل حكومة وفدية.. وظن فاروق بعد ذلك أن الجماهير سوف تؤيده، ولكن ما حدث كان عكس ذلك. سارت مظاهرات تهتف بحياة النحاس وحياة مستر لامبسون، وعندما ذهب السفير البريطانى إلى مجلس الوزراء لتهنئة النحاس حمله المتظاهرون على الأكتاف!!
???
ويكمل مرتضى المراغى روايته لأحداث هذا اليوم التراجيدى فيقول إن حادثة 4 فبراير ولدت فى نفس فاروق كراهية للإنجليز الذين أهانوه، وكراهية للشعب المصرى الذى لم يناصره، وكراهية للنحاس، ولم يكن النحاس قد نسى الجرح الكبير الذى سببه له فاروق عندما أقاله قبل 6 سنوات بخطاب وقح تضمن إهانة صريحة. ازدادت كراهية فاروق للنحاس فقرر اغتياله هو وأمين عثمان. وكان أمين عثمان موظفا كبيرا فى وزارة المالية وكانت له علاقة وثيقة بالسفارة البريطانية تعود إلى فترة دراسته فى بريطانيا وزواجه من سيدة بريطانية وكان هو همزة الوصل بين الوفد والسفارة البريطانية وبعد ذلك اختاره النحاس وزيرا للمالية، وقيل إن هذه كانت مكافأة له على دوره فى 4 فبراير.
وهذه كانت بداية تشكيل (الحرس الحديدى) بأمر فاروق وبإشراف يوسف رشاد الذى أصبح من أكثر المقربين إلى الملك هو وزوجته ناهد رشاد، وهذه قصة أخرى.
???
بقية قصة 4 فبراير يرويها حسن يوسف باشا وكيل الديوان الملكى ورئيس الديوان بالنيابة فى مذكراته (القصر ودوره فى السياسة المصرية) الذى أصدره مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام يقول: على ضوء الوثائق البريطانية وفى نطاق ما تجمع لدى من معلومات من خلال عملى بالقصر يمكن القول بأنه لم يحدث اتصال مباشر بين السفير البريطانى والنحاس باشا، وأن أمين عثمان كان همزة الوصل بينهما، وعند تشكيل الوزارة أراد النحاس مكافأة أمين عثمان فعرض عليه منصبا وزاريا ولكن الأخير بعد استشارة السفير البريطانى فضل منصب السكرتير العام لرياسة مجلس الوزراء، حيث يكون أكثر نفوذا وأكبر فائدة بوصفه (الظل المباشر لرئيس الوزراء) وبعد عشرة أيام من قيام الوزارة الجديدة استصدر النحاس باشا مرسوما بتعيين أمين عثمان رئيسا لديوان المحاسبة بدرجة وزير ولم يكن قانون إنشاء هذا الديوان قد صدر بعد، إذ لم يقدم مشروع هذا القانون إلى البرلمان إلا فى 13 مايو 1943. وفى التعديل الوزارى الذى تم فى 3 يونيو 1943 عين أمين عثمان وزيرا للمالية وهو المنصب الذى يلى فى الأهمية منصب رئيس الوزراء. أما مكافأة السفير البريطانى فقد وضحت فى برقية وزير الخارجية مستر إيدن بالتهنئة ثم بالإنعام عليه برتبة (لورد) فى أول فرصة (يناير 1943).
وفى برقية من السفير البريطانى إلى حكومته يوم 10 فبراير قال: (أبلغنى الجنرال ستون- قائد القوات البريطانية فى القاهرة- أن حادث 4 فبراير قد أدى إلى قدر كبير من الاستياء فى الجيش المصرى لاسيما بين الضباط البارزين الذين كانوا لا يكنون مشاعر خاصة للملك فاروق إلا أنهم يرون أن ثمة إهانة قد لحقت بالعرش عن طريق فرض القوة).
وشهد على ماهر فى قضية مقتل أمين عثمان بأن (أحمد حسنين رئيس الديوان الملكى كان على علم بأن الدبابات البريطانية ستحضر إلى قصر عابدين فى الساعة التاسعة مساء وأن المسألة لما عرضت على الزعماء المجتمعين كانت توجد معلومات عند رئيس الديوان لم يدل بها إلينا). أما الدكتور محمد حسين هيكل باشا فكتب فى مذكراته (حمل رئيس الديوان قرار رفض الإنذار وذهب به إلى السفارة البريطانية، وانتظرنا عودته طويلا فلما تجاوزت الساعة السابعة عاد إلينا يقول إنه سلّم قرارنا للسفير وإن السفير قال له: سأوافيكم برأييى فى الساعة التاسعة وقد أبلغكم أننى لن أحضر وقد أبلغكم نبأ آخر).
ويقول حسن يوسف باشا بعد ذلك: وأخذ حسنين يتلمس المآخذ على وزارة النحاس باشا بعد ذلك ويبلغها للمسئولين فى لندن عن طريق سفيرنا هناك (عبد الفتاح عمرو باشا).. وقد آلى حسنين على نفسه أن يعمل على إخراج الوفد من الحكم.. ونجح فى مسعاه فى أكتوبر من نفس السنة حين أصدر فاروق مرسوما بإقالة وزارة النحاس.. كما دأب حسنين على تصيد الأخطاء لسير مايلز لامبسون إلى أن جاءت حكومة العمال وتحسنت ظروف الحرب بالنسبة للحلفاء فوافقت لندن على نقل السفير فى يناير 1946 إلى منصب مندوب فوق العادة فى جنوب شرق آسيا.
ولا تزال لقصة هذا اليوم فى تاريخ مصر السياسى بقية.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف