فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 14 )
فى يوم الثلاثاء 19 فبراير 1946 كان أحمد حسنين عائدا من مكتبه فى قصر عابدين كرئيس للديوان الملكى وزوجا للملكـة نازلى أم الملك فاروق، وبينما كانت سيارته تجتاز كوبرى قصر النيل فى طريقها إلى الدقى أقبلت سيارة لورى بريطانية من الجهة المضادة، ولفت نصف لفة على الكوبـرى وصدمت سيارة حسنين باشا من الخلف صدمة شديدة التفت السائق خلفه فرأى الدم يسيل من فم حسنين باشا فأوقف السيارة ونزل منها يصيح ويطلب المساعدة، وفى نفس اللحظة مرت مصادفـة سيـارة وزير الزراعـة أحمـد عبد الغفـار باشا صديق حسنين وزميله أيام الدراسة فى أكسفورد، فأسرع وحمله إلى مستشفى الانجلو القريب من مكان الحادث ولكنه أسلم الروح، فنقلـوه إلـى داره.
ونشرت (أخبار اليوم) تفاصيل الحادث يوم 22 فبراير 46 فى الصفحة الأولى تحت عنوان (من المسئول عن مصرع حسنين باشا) وقالت إن وكيل النيابة أنور حبيب (المدعى الاشتراكي فى عهد الرئيس السادات) أراد توجيه بعض الأسئلة إلى الجندى البريطانى سائق اللورى فتقدم إليه ضابط انجليزي برتبة كابتن وأمره بألا يجيب، وقال لوكيل النيابة: لن أسمح بتوجيه أى سؤال إليه لأن صحته أهم لدينا من أى شىء تريدونه منه، ثم أخذ السائق معه وانطلق بسيارته. وقد أحدث تصرف الضابط البريطانى دهشة واستياء، بينما تجمعت ثلاث شهادات على أن السائق كان يسير بسرعة غير عادية، وشهد مراقب الإذاعة البريطانية فى الشرق الأوسط الذى كان يسير بسيارته فى مكان الحادث بأنه توقع حدوث كارثة عندما شاهد اندفاع اللورى واختلال توازنه فأوقف سيارته، وكان هو أول من خف إلى سيارة حسنين باشا. وقرر الخبير الذى فحص اللورى أن بها خللا فى (الدركسيون) بسبب فقد إحدى صواميله. وقيدت النيابة الحادث جنحة ضد السائق البريطانى برقم 195 جنح أجانب سنة 1946 بدائرة قسم عابدين، لأنه تسبب بغير قصد ولا تعمد فى قتل حضرة صاحب المقام الرفيع أحمد حسنين باشا، وذلك بإهماله وعدم احتياطه ومخالفته اللوائح بأن قاد سيارته بسرعة فائقة رغم تساقط المطر ولم يلزم الجانب الأيمن.
***
ويروى كريم ثابت المستشار الصحفى لفاروق والملازم له ليل نهار أن فاروق اتصل به فور وقوع الحادث وطلب منه أن يسرع إلى بيت حسنين باشا، وحين وصل قيل له إن الملك حضر وانصرف، وبعد قليل عاد الملك فاروق وكان بادى الانزعاج وقال لكريم ثابت: لقد جمعت بنفسى أوراقه الخصوصية هنا وفى عابدين، ويقول كريم ثابت: لاحظت أنه لا يتحسر على رائده ولا يذكره بعبارة واحدة تنم على حزنه وقال فقط: تركنا وإحنا فى عز الشغل. وبعد قليل أنعم على اسمه بالوشاح الأكبر (وشاح محمد على ) وقال: لكى يتمكنوا من تشييع جنازته عسكريا.. ولم يذرف عليه دمعة واحدة، بل بدا لى فى بعض الدلائل أن فاروق ارتاح إلى رحيله.. ويضيف كريم ثابت: بعد ذلك اصطحبنى فاروق فى سيارته وأوقفها أمام أوبرج الأهرام، ودخلت فى إثره وأنا أقول فى نفسى: إذا كان قد جاء إلى الأوبرج ليلة وفاة حسنين فما عساه فاعلا ليلة وفاتى؟ وكان نبأ مصرع حسنين قد ذاع فى العاصمة فلما رآنا الذين كانوا فى الأوبرج فى تلك الليلة لم يصدقوا أعينهم.. أما الملك فقال لكريم ثابت: لابد أن هناك مأتما آخر الليلة فى الدقى. وكانت أمه الملكة نازلى منذ خلافها معه – بسبب زواجها من أحمد حسنين – تقيم فى البيت الذى ورثته عن أبيها فى الدقى.. ثم قال فاروق: من حسن الحظ أن كل شىء انتهى الآن.
ويضيف كريم ثابت: إنه قيل إن فاروق عثر بين أوراق حسنين على عقد زواج عرفى بين حسنين ونازلى ولكنه لم يطلعه عليه.
ويقول كريم ثابت إن فاروق ظل يتكلم طويلا عن مأساته بسبب علاقة أمه بحسنين باشا وقال: كنت مضطرا إلى الاحتفاظ به، كان يعرف طبيعتى وسياستى واسرارى، وكنت فى البداية محتاجا إليه فى عملى ثم لم أعد فى حاجة إليه ولكنى كنت قد اعتدت العمل معه، وكان يريحنى، فظل فى خدمتى بقوة الاستمرار وكان فى عمله مطيعا ومؤدبا!
***
ولم يختلف أحد ممن تناولوا عصر وشخصية فاروق على أن أحمد حسنين هو الرجل الذى سيطر على عقلية فاروق وإرادته إلى درجة أنه كان هو الذى يحكم القصر، ويحكم الملك، ويحكم الملكة الأم طبعا، وكان معروفا أن من يسيطر على الأم يسهل عليه السيطرة على فاروق!
عندما أرسل الملك فؤاد ابنه فاروق إلى انجلترا ليتم تعليمه فى أكتوبر 1935 اختار له أحمد حسنين ليشرف عليه أثناء إقامته هناك واعتبره (رائد الملك) وكان فاروق ما يزال فى مرحلة المراهقة لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، وكان المشرف على تنفيذ برنامجه الدراسى الفريق عزيز المصرى. كان عزيز المصرى ضابطا جادا بينما كان أحمد حسنين انجليزى الثقافة والسلوك وقد تعلم فى جامعة أكسفورد، وقد عرف كيف يسيطر على فاروق بأن يشجعه على السهر كل ليلة فى علب الليل فى لندن، بينما اضطر عزيز المصرى إلى أن يترك مهمته ويعود إلى مصر لكيلا يتحمل مسئولية المشاركة فى إفساد ولى العهد ملك مصر المقبل، وبذلك خلا الجو لأحمد حسنين. وكان أحمد حسنين يدين بالولاء لدولة الاحتلال التى عاش وتعلم فيها. كان اللورد ملنر هو ولى أمره فى سنوات الدراسة! وبعد عودته من لندن وإتمام دراسته فيها سنة 1914 كانت أول وظيفة له هى وظيفة السكرتير الخاص للجنرال ماكسويل الذى كان حاكما عسكريا على مصر بتوصية من اللورد ملنر. وظل إلى جانب الجنرال ماكسويل حتى انتهت الحرب العالمية الأولى فانتقل للعمل فى القصر مفتشا بوزارة الداخلية التى كانت خاضعة لإدارة الانجليز، ثم انتقل للعمل فى القصر الملكى سنة 1922 فى وظيفة (الأمين) للملك فؤاد بتوصية من السفير البريطانى – الحاكم الفعلى لمصر فى ذلك الوقت – إلى أن اختاره الملك فؤاد فى سنة 1935 ليكون رائدا لابنه فى رحلة الدراسة فى لندن التى لم يتعلم فيها فاروق شيئا، واضطر إلى قطع البرنامج بعد وفاة أبيه. وظل أحمد حسنين إلى جواره مستشارا ورائدا ومدبرا لمؤامرات القصر، ونجح فى أن يستقطب مجموعة من الصحفيين يكتبون المقالات وينشرون الأخبار التى تصور الملك فاروق فى صورة الملك الصالح الذى يتفانى فى رعاية شعبه والذى يعمل على تحقيق الاستقلال وتطهير البلاد من الاحتلال، وهكذا نجح أحمد حسنين فى خداع الشعب وخداع الملك نفسه الذى صدق الدعايات بأنه الملك الذى يحافظ على الدستور. ونجح أحمد حسنين أيضا فى الإيقاع بين الملك وبين النحاس وحزب الوفد وهو حزب الأغلبية، ونجح فى شق حزب الوفد، وشجع مكرم عبيد على الخروج من الوفد وتشكيل حزب الكتلة الوفدية وإعداد (الكتاب الأسود) للإساءة إلى النحاس وزوجته.
يقول محمد التابعى – صديق أحمد حسنين – إن أحمد حسنين كان حريصا على أن يصور نفسه فى صورة (الطرطور)، ومن تحت هذا (الطرطور) كان يحكم مصر، ومثال واحد يكفى، فهو الذى قرر أن يكون حسين سرى رئيسا للوزراء بعد وفاة رئيس الوزراء حسن صبرى أثناء إلقائه خطاب العرش فى البرلمان مع أن الملك فاروق كان لايزال يتباحث مع على ماهر فى أسماء المرشحين للوزارة ولم يكن بينهم حسين سرى.
خطة أحمد حسنين للسيطرة على الملك وأمه بدأت عقب وفاة الملك فؤاد. يقول الدكتور حسين حسن السكرتير الخاص للملك فاروق فى مذكراته التى أصدرتها دار الشروق بعنوان (سنوات مع الملك فاروق): (بعد انقضاء يوم الأربعين لوفاة الملك فؤاد تم انتقال الأسرة الملكية إلى الإسكندرية كعادتها سنويا، إلا أنه طرأ فى تلك السنة حادث جديد لم يسبق له مثيل من قبل وهو نزول (الرائد) فى المبنى الرئيسى لقصر المنتزه المعد لنزول أفراد الأسرة، على الرغم من وجود مبنى مستقل فى أحد أركان الحديقة لنزول من تحتم الظروف مبيته بالقصر من رجال الحاشية، وقيل فى تعليل ذلك إن واجبات (الرائد) تقتضى وجوده إلى جانب الملك الشاب فى كل لحظة مما يستدعى ملازمته له فى الإقامة).
ويحكى السكرتير الخاص للملك فاروق عن رحلة فاروق مع والدته وشقيقاته الثلاث إلى أوربا وكان أحمد حسنين ملازما للملك وأمه فى هذه الرحلة التى شملت زيارة مرسيليا وجنيف، وبرن، وزيورخ، ثم لندن والعودة عن طريق باريس وفيشى. وفى بداية الرحلة همس أحد رجال الحاشية للسكرتير الخاص أنه شاهد أحمد حسنين جالسا إلى جانب الملكة نازلى فى حالة استرخاء لا يكون إلا بين من رفعت بينهم كل كلفة، وفى صباح اليوم التالى استدعى أحمد حسنين هذا الرجل وقال له: هل تعرف الحكمة لا أرى لا أسمع لا أتكلم؟ هكذا يجب أن يكون رجل الحاشية من بطانة الملوك.. ويقول السكرتير الخاص للملك: كانت تلك الواقعة هى النذير لما تطورت إليه العلاقة بين الملكة نازلى وحسنين فيما بعد، وكان يراودنا الأمل فى أن تتحرك فى نفسيهما عوامل القيم الأخلاقية متسائلين: كيف لا تتنبه الأم إلى واجبات المحافظة على اسمها وكرامتها كأم وملكة وأرملة ملك لبلد إسلامي، وكيف لا يتنبه الرجل الكبير إلى أنه زوج لسيدة لها مكانتها الكبيـرة أمهـا أميــرة كــانت زوجـة للملك فؤاد عندما كــان أميـرا وبفضـل زوجته ومكانتها توثقت صلته بالأسـرة المالكـة، فضــلا عـن أنه أب لأولاد ثلاثة، ولكن ما حدث أثبت أن الملكة نازلى كانت تستهين بكل ما يتعارض مع إرادتها.
إنـه عصر ينخر فيه الفساد الأخلاقى والسياسى منــذ البــدايــة!