فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 12 )
ليس من الصعب أن نكتشف أن شخصية الملك فاروق غير سوية، وأنه كان يعانى من عقدة نفسية تكونت فى الطفولة وازدادت تغلغلاً فى نفسه مع الأيام والسنين. كانت لديه عقدة نفسية من قسوة أبيه وحرمانه من حنان الأب كسائر الأطفال. وعقدة نفسية أخرى هى التى يسميها علماء النفس عقدة أوديب فى إشارة إلى التراجيديا التى أبدعها شكسبير عن الملك أوديب الذى قتل أباه وأحب أمه وتزوجها دون أن يعرف أن هذا أباه وأن هذه أمه، وعندما عرف الحقيقة فقأ عينيه وهام على وجهة والشعور بالذنب يكاد يقتله. عقدة فاروق أنه أحب أمه (الملكة نازلى) فى طفولته وتعلق بها، وتعلقت هى أيضاً به لأنه الولد الوحيد، ولأنها أفرغت عواطفها عليه تعويضاً عن قسوة الزوج وانشغاله بعشيقاته والحكم عليها بالسجن تقريبا فى جناحها بقصر القبة لمدة سبعة عشر عاماً.
والملكة نازلى – كما يذكر الزميل حنفى المحلاوى فى كتابه (الملكة نازلى بين سجن الحريم وكرسى العرش) الذى أصدرته الدار المصرية اللبنانية – تمتد جذورها إلى الدماء الفرنسية والتركية. جدها الأكبر سليمان باشا الفرنساوى الذى أعلن إسلامه وتزوج امرأة مسلمة واستقر فى مصر بصفة نهائية. وجدها الثانى لأمها شريف باشا (أبو الدساتير المصرية) التركى الأصل ابن قاضى عسكر السلطنة العثمانية. والدها عبد الرحيم صبرى تزوج ابنة شريف باشا رئيس وزراء مصر الأسبق، وكان محافظاً للمنوفية، ولما تولى (السلطان) فؤاد (الملك فؤاد بعد ذلك) اختاره محافظاً للقاهرة، وقبيل زواج (السلطان) فؤاد من نازلى اختاره وزيراً للزراعة.
ارتبطت حياة الملكة نازلى بخمسة رجال. سعيد زغلول ابن أخت الزعيم سعد زغلول أول حب فى حياتها. السلطان أحمد فؤاد أول الأزواج. اللواء عمر فتحى كبير الياوران. أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى رائد الملك فاروق ومستشاره الأول الذى تزوجها زواجاً عرفياً بعد قصة حب ملتهبة طلق زوجته وأم أولاده بسببها، وتسببت هذه العلاقة بين نازلى وأحمد حسنين فى أزمة نفسية لفاروق لأن (الفضيحة) كانت على كل لسان فى طول البلاد وعرضها، ولأن فاروق كان يحب أمه ويغار عليها، ولأنه كان يعتمد على أحمد حسنين وهو العقل المدبر لمواقفه وسياساته ولا يستطيع أن يستغنى عنه، كما لا يستطيع أن يقف أمام جموح أمه. وأخيراً رياض غالى الشاب المسيحى الذى كان يعمل فى السفارة المصرية فى واشنطن وله قصة أغرب من الخيال مع نازلى وابنتها الأميرة فتحية انتهت بنهاية مأساوية.
كانت نازلى هى الزوجة الثانية للملك فؤاد، أما الزوجة الأولى فكانت الأميرة شويكار التى تزوجها سنة 1895 وطلقها سنة 1898 وظل بدون زوجة عشرين عاما إلى أن تزوج نازلى فى مايو 1919 وكان عمره (51) عاماً وكانت نازلى فى الخامسة والعشرين (من مواليد 1894).
أما عمر فتحى فكان ضابطا فى حرس السلطان حسين كامل، وبتوجيهات من الملكة نازلى أصبح الياور الخاص لابنها فاروق سنة 1937 ثم أصبح كبيراً للياوران سنة 1941 برتبة لواء. كان متزوجاً من سيدة من وصيفات الملكة نازلى وانفصل عنها سنة 1953 قبل وفاته بسنتين (سنة 1955) وكان فى الخامسة والستين، وينقل حنفى المحلاوى عن محمد التابعى أن الملكة نازلى (بقيت سجينة القصر سبعة عشر عاماً، وأخيراً مات سجانها الملك فؤاد، وانطلقت بشراهة ونهم تطفئ نار الظمأ الذى أحرق حشاها السنوات الطوال).. وكثر الهمس.. وذكرت أسماء بعض ضباط الحرس وموظفى القصر.. ثم تركزت حول اسمين هما أحمد حسنين والياور (البكباشى فى ذلك الوقت) عمر فتحى، وبعد فترة انسحب عمر فتحى ليترك نازلى لأحمد حسنين.
أما قصتها مع أحمد حسنين فكانت حديث الصالونات إلى أن طلق أحمد حسنين زوجته وأم أولاده وهى ابنة الأميرة شويكار زوجة الملك فؤاد السابقة، وتزوج نازلى زواجا عرفيا بعد أن وجدت نازلى أن زوجها رسميا يفقدها لقب الملكة والجلوس على كرسى العرش إلى جانب ابنها الملك، وأكد أحمد حسنين لمن حوله أن علاقته بنازلى لم تكن حبا ولكن كانت حرصا منه على إرضاء نزواتها، ولأنها ملكة مصر وأم ملك مصر وصاحبة النفوذ الأكبر لدى ابنها!
كان زواج الملك فؤاد من نازلى فى سنة الثورة واشتعال البلاد، ومن فتاة سمعتها ليست فوق الشبهات مما جعل بيرم التونسى يصدر مجلة باسم (المسلة) بدون ترخيص ويكتب تحت اسمها (المسلة لا جريدة ولا مجلة) وكتب فيها أنشودة ذاعت على ألسنة الناس يقول فيها:
البنت ماشيه من زمان تتمخطر
والعقلة زارع فى الديوان قرع أخضر
يا راكبا الفيتون وقلبك حامى
اسبق على القبة وطير قدامى
تلقى العروس شبه محمل شامى
وجوزها يشبه فى الشوارب عنتر
***
الوزة من قبل الفرح مدبوحة
والعطفة من قبل النظام مفتوحة
ولما جات تتجوز المفضوحة
قلت اسكتوا وخلوا البنات تتستر
وفى القصيدة يلمح بيرم إلى أن فاروق ولد قبل مضى تسعة أشهر على الزواج بقوله:
ياباديشاه ده أنت ابنك ظهر
ربك يبارك لك فى عمر الغلام
نزل يلعلط تحت برج القمر
يا خسارة بس الشهر كان مش تمام
وكلمة (باديشاه) معناها السلطان.
عاشت نازلى فى قصر عابدين حياة غريبة.. كانت كبيرة الوصيفات تتحكم فى تحركاتها ومقابلاتها وهى مدام جوزيف أصلان قطاوى باشا سيدة يهودية كانت فيما سبق (صديقة حميمة) للملك فؤاد.. وكانت المربية الانجليزية (مسز نايلور) الصارمة هى التى تحكم نظام تربية وتعليم الأطفال وكانت سلطتها فى القصر وكلمتها تفوق سلطة الملكة، ولم يكن للملكة رأى فى تعليم أبنائها ولا يسمح لها برؤيتهم أكثر من ساعة تقريباً كل يوم حتى لا يتعطلوا عن دراستهم. ولم تكن الملكة نازلى تخرج من القصر إلا لمشاهدة عروض الأوبرا فى موسم الشتاء، وفى الاستقبالات والمناسبات الرسمية فقط.
وينقل حنفى المحلاوى عن كتاب الأستاذ محمد التابعى (من أسرار الساسة والسياسة): "لم تمض سوى أسابيع قليلة على وفاة الزوج عام 1936 حتى كثر الهمس بين موظفى القصر والأوساط الخاصة المتصلة به بأن السجينة حطمت قيودها وانطلقت وهى لا تزال فى ثوب الحداد تمرح وتحاول تعويض ما فاتها من الحياة ومتعها، وكانت السجينة هى الملكة نازلى التى كانت تقول لكل من يقابلها وتأمن جانبه: أنا سجينة الملك فؤاد"
بدأت نازلى فور وفاة الملك فؤاد بالتخلص من رجاله ونسائه فى القصر، وتفرغت أولاً لتدبير الأمور لضمان جلوس ابنها على العرش وفى نفس الوقت أصبحت على علاقة مع رجلين فى القصر هما عمر فتحى كبير الياوران الذى انسحب مبكرا ليخلى الطريق إلى الرجل الثانى أحمد حسنين.. وبقى عمر فتحى حريصا على أن يكون وجوده فى حدود وظيفته.. أما أحمد حسنين فكان من طراز آخر.. فهو خريج جامعة اكسفورد أشهر جامعة فى بريطانيا، وعمل سكرتيرا فى السفارة البريطانية بالقاهرة ثم مفتشا بوزارة الداخلية ثم سكرتيرا فى سفارة مصر فى واشنطن ثم الأمين الأول للملك فؤاد ورائد فاروق ولى العهد وأمير الصعيد، ثم الأمين الأول لفاروق حين تولى العرش ثم رئيس الديوان الملكى وظل يمسك بخيوط السياسة المصرية بين عامى 1940 و 1946. وقضى عشر سنوات مع الملكة نازلى من وفاة الملك فؤاد سنة 1936 إلى وفاته هو فى حادث اصطدام سيارة يقودها عسكرى انجليزى بسيارته على كوبرى قصر النيل فى 19 فبراير سنة 1946. وخلال هذه السنوات العشر أصبح أحمد حسنين الزوج الثانى للملكة الأم.
ولكن أحمد حسنين عاش قصة حب بدأت سنة 1940 مع المطربة أسمهان، واستطاع أن يجمع بين الاثنتين مما جعل ناظر الخاصة الملكية مراد محسن باشا يقول إن حسنين باشا كان أخطر رجل فى مصر.. وهو ممثل يجيد التمثيل أفضل من يوسف وهبى.. وأنا لا أنسى يوم جاءتنى الملكة نازلى تقول إنها تحب حسنين ولا تستطيع الحياة بدونه، وأنها تعسة لأن حسنين صارحها بأنه لا يستطيع أن يقربها لأنه لا يحب الحرام.. ولقد دهشت من هذا التصرف من حسنين فأنا أعرفه جيداً وأعرف أنه فى حياته الخاصة ليس شيخ الأزهر، ولكن حسنين كان يمثل دورا، وكانت النتيجة أن ازداد حب الملكة..فهو رجل يجد ملكة بين يديه ويرفض أن يقربها.. وذات يوم قالت له: أنا أعطيك انذارا نهائياً، وإما أن تعاملنى كامرأة، وإما سأقطع كل علاقة بيننا وأفعل ما أشاء، وأجاب حسنين – وهو يتظاهر بالبكاء – إنه لا يستطيع أن يقربها إلا إذا تزوجها.. ثم أسرع يقول: غير معقول أن أتزوج الملكة، وهنا صاحت الملكة نازلى: طظ فى لقب الملكة، ولكن حسنين قال إن جلالة الملك سيطردنى وأنا أفقر من أن أعيش على معاشى. قالت الملكة نازلى أنا مستعدة لأن أضع ثروتى كلها بين يديك.. وهناك قالت الملكة نازلى إذن سأذهب إلى فاروق وأقول له إننى سأتزوجك. قال حسنين: اذهبى.. ولكنه سيرفض.
وكانت مقابلة عاصفة بين الملكة الأم وابنها، قال لها فاروق فى نهايتها: رافقيه أحسن، قالت إنه يرفض. قال سأصدر إليه أمرا ملكياً.. ولعل فاروق كان يسخر من أمه.
ويختتم مراد محسن باشا شهادته بقوله: وعلى أى حال فإنه لم يفاتح حسنين فى هذا الموضوع، وكان طبيعيا أننى أعتقد أن الملك سوف يغضب ويحقد على حسنين ويطرده.. ولكن شيئا من هذا لم يحدث!
وهذه ليست كل القصة.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف