الثورة فى نادى السيارات !

يقدم لنا علاء الأسوانى فى روايته الجديدة (نادى السيارات) عالما كاملا زاخرا بالشخصيات والأحداث والمواقف وكأن نادى السيارات هو مصر بكل ما فيها، أو كأنه الدنيا بخيرها وشرها، وهى رواية تجذبك إليها بعد أن تجتاز صفحات عن زيارة بطلين من أبطال الرواية للمؤلف للاحتجاج على ما كتبه عنهما لأنه يعبر عن رؤيته هو ويقدمان له رؤيتهما لما جرى، وتجتاز مقالا عن تاريخ اختراع السيارات وهو مقال مفيد بلا شك ولكنه لا يضيف شيئا إلى الرواية كرواية.
وصل علاء الأسوانى فى هذه الرواية إلى المستوى العالمى خاصة وقد اختار تصميم البناء الروائى بشكل يتفق مع الموجة الجديدة التى لا تلتزم بسرد الأحداث متتابعة بما يطرأ عليها من تطورات ومفاجآت بحيث تمضى الرواية فى خط واحد يقود القارئ من البداية إلى النهاية.
فى هذه الرواية اختار علاء الأسوانى تكنيكا سينمائيا وكأنه يكتب معالجة سينمائية للقصة أو سيناريو أو مشروع سيناريو لفيلم، فيقدم المشهد بما فيه من شخصيات وأحداث وحوار ويختمه بكلمات أو بحدث يثير حب الاستطلاع ويدفع القارئ إلى مواصلة القراءة لمعرفة ماذا بعد، وباختصار فإن عنصر التشويق فى هذه الرواية بلغ أقصى حد، وعلى الرغم من طول الرواية التى تستغرق 644 صفحة فإن الملل لا يمكن أن يتسرب إلى القارئ فى أى لحظة.
***
وعلاء الأسوانى يختار أن يكون محور روايته فى مكان ما، ولكل مكان اختاره ذكريات فى حياته، اختار عمارة يعقوبيان مكانا تنطلق منه روايته الأولى لأنه عاش فى هذه العمارة وكان مكتب والده المحامى والكاتب الكبير عباس الأسوانى فيها، واختار مدينة شيكاغو الأمريكية مكانا لأحداث روايته الثانية لأنه عاش فيها حين يدرس للماجستير فى طب الأسنان فى أمريكا، واختار نادى السيارات لروايته الجديدة لأن عاش فيه وتعرف على الحياة فيه بكل ما فيها من تناقضات لأن والده كان المستشار القانونى للنادى وله مكتب فيه وبالطبع كان علاء الأسوانى يتردد عليه ويراقب بعين الروائى الموهوب ويختزن المشاهد والأشخاص والأحداث، وليست هناك حاجة إلى التأكيد أن هذه الروايات فيها جزء من الواقع الذى عايشه المؤلف وجزء من خيال الروائى بالحذف والإضافة والخلق الفنى.
***
فى الرواية شخصيات كثيرة كل منها يحتاج إلى حديث مستقل لتحليل مواقفه وتصرفاته والكشف عن طبيعته والدوافع وراء سلوكه فى هذا الموقف أو ذاك، ولكن أبرز الشخصيات هى شخصية عبد العزيز همام الصعيدى الذى ورث عن عائلته اسمها ومكانتها وما تبقى من ميراثها المادى والاجتماعى، أما الميراث المادى فلم يكن كبيرا ولكن الميراث الاجتماعى هو الذى كان ثقيلا، لأن بيت العائلة كان بيت كل أهل القرية، وحرص عبد العزيز على أن يظل البيت مفتوحا للقريب والغريب حتى باع ما يملك واضطر إلى النزوح إلى القاهرة حيث استأجر شقة واسعة ظلت مفتوحة أيضا لكل أهل القرية ليقيموا ويأكلوا حتى ولو لم يأكل أهل البيت، خاصة أن زوجته هى بنت عمه وارثة لذات التقاليد وحريصة على مكانة العائلة أمام الناس، وفى القاهرة وجد وظيفة مساعد لأمين المخزن فى نادى السيارات، وهنا تظهر الشخصية المحورية الثانية وهى شخصية كبير الخدم فى قصر الملك فاروق (قاسم محمد قاسم) وهو كبير الشماشرجية، يعيش فى القصر لخدمة جلالة الملك، وهو أقرب شخصية إليه، ولذلك يتقرب إليه الوزراء والباشوات ليقول فى حقهم كلمة تنفعهم عند الملك، وكان يفعل ذلك مقابل هدايا ومزايا ومكانة، ويعطيه هذا المنصب أن يكون المشرف على الخدم فى نادى السيارات، ولا معقب عليه فيما يفعله بهم حتى أنه كان يعاقب كل من يخطئ أو يظن أنه أخطأ أو يدعى أنه أخطأ بأن ينظر بعينيه فيدرك الخدم ما يريد وسرعان ما يقوم اثنان منهم بالإمساك بمن فرض عليه العقاب ويتولى مساعده (حميد الشاذ البدين) بضربه ضربا شديدا يؤلمه ويسقط معنى الكرامة الإنسانية فى نادى الباشوات، ولأن كبير الشماشرجية شخصية مستبدة وطاغية وبلا قلب ولا عواطف فإنه لا يعرف أسلوبا لمحاسبة المخطئ إلا بإهانته وكلهم كبار السن ومن الصعيد حيث يضحى الفرد بحياته ولا يضحى بكرامته، ولهذا كان الغضب مكبوتا وإن ظهر على السطح الاستسلام والذلة والرضا بادعاء أن (الكو) أبونا جاء بنا من الصعيد وفتح بيوتنا، والكو كلمة نوبية معناها (الريس). شخصية الكو بقسوته واستبداده وفساده أحد المحاور الرئيسية فى الرواية، فهو يقتسم (البقشيش) معهم، وهو يعاملهم على أنهم (عبيد إحسانه) وهو لا يغتفر لأحد أقل هفوة، ولذلك كان الجميع يرتعدون أمامه عندما يأتى إلى النادى فى سيارته الكاديلاك، بملابس الشماشرجية المزركشة، وبيده السيجار الفاخر، وتفوح به رائحة العطور الباريسية.
وهكذا كان نادى السيارات الملكى الذى افتتح رسميا فى سنة 1924 وكان المؤسسون جميعا من الأجانب والأتراك وأسندت رئاسة النادى إلى الأمير محمد على (ولى العهد - ابن عم الملك) والرئاسة الشرفية كانت (لجلالة) الملك فؤاد الأول، ثم (جلالة) الملك فاروق الأول، واختير جيمس رايت الإنجليزى مديرا للنادى، وفيه صلافة وشعور بالتفوق لأنه بريطانى وبريطانيا تحتل مصر، ومن رأيه أن المصريين جميعا ولو كانوا أثرياء ومتعلمين غير مؤهلين لنيل شرف عضوية هذا النادى ونظرا للشعور الوطنى الملتهب بين المصريين ضد الاحتلال توصلوا إلى اشتراط حصول المصرى الذى يتقدم للعضوية أن يحصل على تزكية مكتوبة من عضوين بمجلس الإدارة أما الأجنبى فيحصل على العضوية لمجرد أنه يمتلك سيارة، ولأن رأى الأجانب أن المصريين (قذرون، وأغبياء، ولئام، وكاذبون، ولصوص) فقد اختلف أعضاء مجلس الإدارة هل يسمح بتشغيل الخدم المصريين او يتم اختيارهم من الأوروبيين.
ببراعة شديدة يجعلنا علاء الأسوانى نعيش فى النادى حيث يسهر الملك على مائدة القمار حتى الفجر ويتعمد الباشوات أن يخسروا أمامه ليحظوا بالرضا السامى وبالمناصب والعقود وبالحظوة لدى الملك وهى كفيلة بفتح كل الأبواب لكل من يحظى بها.. ويسهر الباشوات والأجانب ويسكرون ويعقدون الصفقات ويتبادلون أحاديث النميمة والمناورات السياسية.. وتتألق الأنوار فى نادى السيارات طول الليل على من فيه من (الناس اللى فوق جدا) و(الناس اللى تحت جدا) وينسج علاء الأسوانى خيوط روايته بين هؤلاء وهؤلاء ببراعة شديدة وإتقان يثير الإعجاب.
***
الضرب والإهانة وإهدار الكرامة مكتوب على كل الخدم فى نادى السيارات إلى أن يلفت نظر (الكو) أن عبد العزيز مازالت فيه ملامح اعتزاز بنفسه فينقلب عليه فى لحظة ويفرض عليه العقوبة، ويضطر زملاؤه إلى تكتيفه ليضربه (حميد) على وجهه ويكيل له اللكمات والركلات إلى أن يقع على الأرض فيحمله زملاؤه وهم يعتذرون له بأنهم (عبدالمأمور) ولقمة العيش هنا معجونة بالذل، وعندما يعود إلى بيته محطم الجسم والنفس يجلس ساكنا دون أن ينطق بكلمة، ثم تقع رأسه على كتفه ويموت، وتبدأ مأساة أسرته التى وجدت نفسها بلا مورد وفيها كامل طالب فى كلية الحقوق كان والده يحلم بأن يراه وكيل نيابة، وحسن لم يفلح فى الدراسة فدخل مدرسة الصنايع، ومحمود الذى يميل إلى اللعب والجرى مع البنات مع صديقه الحميم ولهما فى الرواية مغامرات كثيرة وغريبة، ثم صالحة التى ورثت الأصالة والقيم عن العائلة ولكنها ابتليت بزوج أفسد عليها حياتها، ويعمل كامل فى الوظيفة التى كان يشغلها أبوه مساعدا لأمين المخزن إلى جانب الدراسة، وتتطور علاقاته حتى يتعرف على (ميتسى) الإنجليزية بنت مدير النادى وهى تحتاج إلى تعلم اللغة العربية وينسج علاء الأسوانى قصة الحب ويتخللها تعرض (ميتسى) لمخالب صائد النساء للملك، ولكنها تفلت منه بالحيلة وتسوء علاقتها بوالدها فتعيش وحدها وتندمج مع عائلة كامل وفى النهاية وتتزوجه وهو فى السجن بتهمة مقاومة الاحتلال البريطانى والانضمام إلى خلية تطبع وتوزع منشورات تحرض المصريين على الثورة ضد الاحتلال.
***
هكذا تسير الرواية فى مسارات عدة.. مسار اجتماعى عن الأوضاع المزرية للمصريين فى ظل فساد وطغيان الحكم، ومسار العبودية المفروضة على فقراء المصريين، ومسار الحب والجنس وله مساحة كبيرة فى الرواية، ومسار الكفاح الوطنى وتحمل الاضطهاد والسجن دفاعا عن حقوق المصريين وأولها الحق فى الحرية والكرامة.
من الصعب تلخيص الرواية ولكن أعتقد أننى سأعود إليها ويكفى الإشارة إلى النهاية حين يتسلل الخدم المستعبدون على (الكو) فى جناحه بالقصر الملكى، وانهالوا عليه بالصفعات واللكمات حتى صاح من الألم وظل يسترحمهم: - أنا رجل كبير وأنتم مثل أولادى، وهم يردون - أنت سرقتنا وأذللتنا، وهو يسترحمهم: سأحقق مطالبكم جميعا، فيقولون: لن تخدعنا مرة أخرى.. ودوت طلقات نارية.. ووجدوا (الكو) مرتديا بيجامة حريرية ومسجى على الأرض وقد انفرجت شفتاه كأنه اندهش مرة أخيرة وإلى الأبد، ولكل ظالم نهاية.
كنت أتمنى أن أقول ما لدى ولكن المساحة كالعادة وربما تكون هناك فرصة لاستكمال الحديث عن هذه الرواية التى تستحق نوبل لأنها تعكس الصراع الإنسانى من أجل الحياة والكرامة والحرية والحق فى الحب

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف