فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 10 )
 فى الوقت الذى كانت الصحافة فى أوربا تنشر فضائح الملك فاروق كانت الصحافة المصرية تنشر على لسان كبار رجـال الدولة عبارات الثناء والمديح للملك الصالح، أمير المؤمنين، وقدوة المسلمين، وكان بعضهم يعـلم أن فاروق يقضى أيامه فى جزيرة كابـرى الايطالية بين موائـد القمار والنساء، كان يقول فى خطبـة رسميـة: إننى أرنـو إلى بقعة طاهرة حيث المليك المفدى لأرفع إلى أعتابه الملكية آيات الولاء و.. و.. الخ.
أما ما نشرته الصحف الأوروبية فكان شيئا مخزيا..
فى رحلته الأولى فى سنة 1946 إلى جزيرة قبرص على اليخت الملكى (فخر البحار) وكان على موعد مع ممثلة السينما ليليان كوهين التى اشتهرت بجمالها وباسمها الفنى (كاميليا) التى احترقت بعد ذلك فى حادث طائرة.
وكان فاروق وقتها فى بداية علاقته بها، وحاول إخفاء شخصيته عن الصحافة وعن السياسيين الأوربيين فذهب متنكرا ولكنه لم يكد يصل إلى هناك حتى كانت عدسات المصورين ومندوبى وكالات الأنباء قد تابعت كل خطواته وتنشر أخبار وصور سهراته، ولم تمض ساعات على وصوله حتى كان كل أهل الجزيرة قد عرفوا أن ملك مصر يقضى لياليه فيها وأصبحت مباذله على كل لسان.. فترك قبرص إلى تركيا ظنا منه أن السرية سوف تنجح فيها، ولكنه فور وصوله كانت وكالة أنباء رويتر قد أذاعت نبأ وصوله. وبينما كان فاروق يقضى أيامه فى اللهو غير البرئ كان مجلس الوزراء فى مصر برئاسة إسماعيل صدقى باشا يواجه أزمة بين رئيس الوزراء وعدد من الوزراء، وكانت المفاوضات المصرية البريطانية حول الجلاء تتعثر، وكانت الأوضاع السياسية فى البلاد تقتضى أن يكون الملك موجودا. وراحت البرقيات تتوالى من القصر على اليخت الملكى تناشد الملك سرعة العودة ولكنه فضل أن يستمر مع أحدث عشيقاته ضاربا عرض البحر بالأزمة الوزارية وبالأزمة السياسية وبنظرات الناس له كلما رأوه فى مواقف لا تليق برجل محترم. واضطر رئيس الوزراء إلى إخطار الملك بأنه مضطر للاستقالة إذا لم يعد إلى مصر فورا لتولى مسئوليته كملك، لكن فاروق لم يشأ أن يقطع السعادة التى كان يعيش فيها فأرسل إلى رئيس الوزراء يستدعيه لمقابلته فى منتصف الطريق.. فى جزيرة رودس.. وترك كاميليا فى قبرص على أمل ألا يعلم رئيس الوزراء بوجودها، وبالطبع كان رئيس الوزراء أول من يعلم. وفى مقابلة الملك لرئيس الوزراء فى رودس وقع فاروق عددا من أخطر المراسيم الملكية.. منها مرسوم بالتعديل الوزارى الذى اقترحه رئيس الوزراء، ومرسوم بإنشاء مجلس الدولة وتعيين محمد كامل مرسى باشا رئيسا له، ومرسوم بتعيين مستشارى مجلس الدولة، ومرسوم بالحركة القضائية. وقد وقع هذه المراسيم على ظهر اليخت الملكى بناء على فتوى بأنه لا يجوز أن يوقع الملك على ارض أجنبية مراسيم تتعلق بالدولة، ولكن اليخت الملكى يعتبر أرضا مصرية وبذلك تكتسب هذه المراسيم الشرعية الدستورية!
***
وكانت رحلته الثانية فى صيف 1950 إلى إيطاليا وفرنسا، وكان قد طلق زوجته الملكة فريدة فى 17 نوفمبر 1948 وذهب بجواز سفر باسم (فؤاد باشا المصرى)، ولكنه كان يظهر فى أندية القمار والأندية الليلية مع النساء وكأنه قد أصابه الجنون فجأة. ويصف الدكتور محمد حسين هيكل (رئيس حزب الأحرار الدستوريين ورئيس الوزراء ورئيس مجلس الشيوخ الأسبق والمؤرخ الكبير) هذه الرحلة فيقول فى كتابه الشهير (مذكرات فى السياسة المصرية – الجزء الثانى) : بعد أيام من صدور مراسيم 17 يونيو الشهيرة أعلنت الصحف أن الملك سيسافر إلى أوروبا متنكرا باسم فؤاد باشا المصرى. فلما كان بفرنسا جعل مقره الرئيسى فى مصيف دوفيل، وجعل نادى هذه المدينة مكان سمره وسهره ولعبه القمار كما كان الحال فى نادى السيارات بالقاهرة. وما لبثت غانيات باريس، والفاتنات الدوليات – حين عرفن ذلك – أن هرع عدد كبير منهن إلى دوفيل، مؤمنات بأن ملك مصر يريد أن يقضى صيفه فى مرح ومسرة، وزادهن إيمانا أن دعيت الراقصة المصرية سامية جمال إلى دوفيل لتبعث برقصاتها إلى هذا المجتمع المصرى الفرنسى الدولى النعمة والنعيم!
ويستكمل الدكتور هيكل حديثه قائلا: (وأوفدت صحف فرنسا وصحف أوربا وصحف أمريكا مراسليها إلى المدينة الرافلة فى حلل هذه البهجة الغناء لموافاتها بأنباء الملك الشرقى المغامر. وأخذت الصحف فى أرجاء العالم تنشر أنباء الملايين التى يكسبها أو يخسرها فاروق على مائدة القمار، ما فتح العيون فى العالمين القديم والجديد على هذا الملك الشاب الذى أعاد فى القرن العشرين، وفى قلب أوروبا، صورا أعجب مئات المرات من صور ألف ليلة وليلة. وانتهزت الصحف هذه الفرصة للتشهير بملك مصر، ولم تكتف بما راحت تنشره من أنباء الملك فى دوفيل بل لجأت إلى حياته الخاصة فجعلت منها مادة زادت بها استهتار الملك بروزا ووضوحا، واثر ما نشرته الصحف حتى كان المصريون المصطافون بأوروبا يخجلون فلا يذكرون جنسيتهم لمن يسأل عنها، وقد لمست ذلك بنفسى، إذ كنت بباريس عائدا من مؤتمر الاتحاد البرلمانى الدولى الذى عقد ذلك العام فى دبلن عاصمة ايرلندا، فقد أطلعت فى مجموعة الصحف الفرنسية عند أحد أصدقائى الفرنسيين على طائفة من المقالات والصور التى نشرت عن فاروق فطأطأت رأسى. واطلعت كذلك على بعض المجلات الأمريكية فإذا هى تنشر عن حوادث فاروق وتصفه بأقبح الصفات. ورأيت فى بعض مسارح باريس تعريضا بالملك ومغامراته يندى لها الجبين. وسمعت من بعض معارفى - رجال وسيدات – ما ووجهوا به حين عرف محدثوهم أنهم مصريون، فآثرت ألا أتعرض لمثل ما تعرضوا له. وزاد الطين بله أن كانت الصحف الأوربية والأمريكية تنشر عن التحقيقات التى كانت تجرى فى مصر عن الأسلحة والذخيرة الفاسدة التى اشتريت للجيش المصرى المحارب فى فلسطين، مما يندى له الجبين. كانت صحف أوربا تنشر من التفاصيل الخاصة بهذا التحقيق ما يزيد الدعاية ضد الملك وضد مصر إثارة لنفس كل من يتابعها، وما يجعل المصريين المقيمين بباريس وبأوربا يطأطئون رؤوسهم خزيا وخجلا).
***
وذلك ما سجله الدكتور هيكل عن فضائح فاروق. وينقل الأستاذ حلمى سلام فى كتابه (أيامه الأخيرة – قصة ملك باع نفسه للشيطان) بعض عناوين الصحف.. صحيفة (فرانس بريس) تقول: (فاروق ينتزع النصر فى السباق فى دوفيل ويخسر أربعة ملايين ونصف مليون فرنك فى نصف ساعة) .. وصحيفة (بارى بريس) تقول: (ألف ليلة وليلة فى دوفيل – الملك فاروق بين البيجوم أغاخان ومدام كحيل ومدام كريم ثابت) وصحيفة (فرانس بريس) تقول: (اشترى فاروق بعض المجوهرات الثمينة من محلات (فان كليف) ولكن لم يعرف بعد من التى ستفوز بهذه المجوهرات – هل ستكون سامية جمال هى الفائزة أو الراقصة (سيرين أوجيمونا) أو المغنية (آنى برييه). إنه على كل حال يحمل المجوهرات فى جيب سترته الأيمن، ويقال إن (سونيا) عارضة الأزياء فى محلات (كارفن) ستكون هى الفائزة بهذه المجوهرات) وصحيفة (رادار) تقول: (إن فاروق له راقصة مفضلة تماما مثل الملك هيرودس فى التاريخ القديم، أما سالومى الحديثة فاسمها سامية جمال، وقد شهدت دوفيل فى ليلة من ليالى الشرق الساخنة سامية جمال وهى ترقص حافية القدمين فى ثوب مطرز بالفضة، وقد أرسلت شعرها يصرخ فى الهواء).
يقول الأستاذ حلمى سلام إن فضيحة الفضائح التى نشرتها جميع الصحف فكانت بطلتها فتاة أمريكية فى السادسة عشرة من عمرها اسمها (ميمى ميدار) ابنة أحد الأثرياء الأمريكيين الذين ساقهم قدرهم إلى الاصطياف فى دوفيل أثناء وجود فاروق بها، وقعت عينه عليها فى صالة الفندق، وحدث أن انفرد بها فى مصعد الفندق فهاجمها ولم تستطع أن تقاومه وكانت تلك فضيحة صارخة، ونشرتها جميع الصحف، لكن ذلك لم يمنع الملك فاروق من إرسال الزهور كل صباح إلى غرفة الفتاة.
وقبيل عودته من هذه الرحلة حصلت مجلة (روز اليوسف) على صورة الفتاة الأمريكية ونشرتها فى عددها الصادر يوم 26 سبتمبر 1950 وتحتها الخبر التالى: (يتحدث المصريون العائدون من أوربا عن الآنسة (ميمى ميدار) وهى آنسة أمريكية فى السادسة عشرة من عمرها وابنة أحد كبار أصحاب مصانع الصلب فى ولاية (ميسورى) بأمريكا. وقد وجهت إلى الآنسة (ميمى) أكثر من دعوة لزيارة مصر ولكنها لم تقرر بعد قبول أى دعوة منها.. كما نشرت (روز اليوسف) فى الصفحة المقابلة من نفس العدد صورة أخرى للفتاة فى وضع آخر وتحتها: (الآنسة ميمى عند وصولها إلى مطار لندن لتكمل دراستها فى جامعات انجلترا، بعد أن قامت برحلة فى أوربا بصحبة والديها، وقد أعلنت أنها فقدت حقيبتين من حقائبها فى مدينتى (سان سيستيان) و(بيارتز) وهما حقيبتا ملابسها، وأشارت ميمى إلى (السويتر) الذى كان ترتديه وقالت للصحفيين: هذا كل ما أملكه الآن من ملابس).. وتحرك فى الناس الفضول عن السر وراء هذه الفتاة التى تنشر المجلة صورتها مرتين فى عدد واحد.. وطبعا انتشرت الفضيحة نقلا عن العالمين بالسر.. ثم عادت روز اليوسف يوم 28 أغسطس 1951 – بعد 11 شهرا – فنشرت صورة الفتاة تحت عنوان بارز لخبر يقول: (البرقية التى اهتمت بها الأوساط المصرية: (بعثت الآنسة ميمى ميدار صباح 18 أغسطس ببرقية إلى القاهرة باسم شخصيـة مصـرية كبيرة تقول فيها إنها أنجبت ولدا جميل الطلعة..وكان من المنتظر أن تزور (ميمى) القاهرة فى شتاء هـذا العـام، ولكـن حدثت ظـروف قـد تحـول دون دخولهـا الأراضـى المصريـة إلى الأبــد).. ولم تعـد الفضيحة خافية على أحد.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف