فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 9 )
أصيب الملك فاروق فى طفولته (وهو فى التاسعة من عمره) بالحمى الشوكية ولم يستطع طبيب القصر أن يشخِّص المرض، فتم استدعاء طبيب إيطالى شهير (البروفيسور فرجونى) ومرت فترة عصيبة بين الأمل فى الشفاء واليأس. وبعد شفائه صارح والده- الملك فؤاد- ناظر الخاصة الملكية زكى الإبراشى باشا وكان أقرب الناس إليه بأن الطبيب قال له قبل سفره إن إصابة ولى العهد كانت شديدة جداً ويخشى أن تكون قد أثّرت على المخ. وسأله الملك فؤاد: هل معنى ذلك أن قواه العقلية قد تصبح غير مكتملة، فقال له الطبيب: (قد) لا يصل الأمر إلى هذا الحد (إذا) لم تحدث مضاعفات. ثم قال الملك فؤاد لصديقه المقرب (زكى الإبراشى باشا): ستكون مصيبة لو أن المرض ترك أثرا على عقل ولى عهدى، وهو الصبى الوحيد المؤهل لولاية العرش من ذريتى، وآخر مولود جاء نبتا، ولم تبق فى البندقية خرطوشة أخرى!
ولكى يخفف الصديق عن الملك همومه قال له: لى أمل أن يحاط الأمير حين يتولى الملك بعد عمر طويل لجلالتكم بحاشية عاقلة ومخلصة ومستشارين يسهِّلون عليه مهمة الحكم. فعلق الملك ساخرا: حاشية عاقلة ومخلصة يا زكى؟! إن الحاشية لو كانت عاقلة فلن تكون مخلصة، ولو كانت مخلصة فهى ليست عاقلة وأقصى ما تصل إليه أن تكون منافقة!!
هذه الواقعة رواها زكى الإبراشى باشا ناظر الخاصة الملكية أقرب الناس إلى الملك فؤاد لكل من محمد محمود باشا رئيس الوزراء، والشيخ مصطفى المراغى شيخ الأزهر ونقلها عنهما مرتضى المراغى باشا- وزير الداخلية فى عهد فاروق وهو ابن الشيخ المراغى- فى مذكراته (شاهد على حكم فاروق) التى أصدرت دار المعارف طبعة جديدة لها منذ أيام.
ومذكرات مرتضى المراغى باشا لها أهمية كبيرة أولاً لأن الرجل مشهود له بالاستقامة والنزاهة. كان سكرتيرا خاصا لرئيس الوزراء (محمد محمود باشا). وكان ميرا للأمن العام، ثم وكيلا لوزارة الداخلية، ثم محافظا للإسكندرية وأخيرا كان وزيرا للداخلية يوم 27 يناير 1952- اليوم التالى لحريق القاهرة- وهو كما يقول عنه الأستاذ صلاح منتصر فى مقدمته للمذكرات: كان الوزير الذى كان عليه أن يعرف ما كان يجرى فى الخفاء بصرف النظر عن فساد الحكم أو صحته.
يقول مرتضى المراغى إن فاروق كان ضحية عوامل عديدة منها مرضه فى طفولته، والجو العائلى المضطرب بين أبيه وأمه الذى كان يخيم على قصر عابدين، وإصرار أبيه على رفض أن تكون تربيته تربية مصرية خالصة، وحرمانه من اللعب مع أطفال مصريين، كل ذلك ترك فى نفسه آثارا ترسبت فى عقله الباطن. ثم تم إرساله إلى بريطانيا ليتعلم فيها وهو صغير السن (16 سنة) وكان أحمد حسنين هو المسئول عن توجيهه لكنه عمل على إرضاء نزوات ولى العهد أكثر من حرصه على دراسته، ثم جلس فاروق على العرش وهو لم يكمل الثامنة عشرة من عمره ووجد كبار البلد ينحنون له، وعظماء مصر يقبِّلون يده، وزيِّن له مستشاره السياسى على ماهر باشا الخروج على الأعراف الدستورية والسياسية والأخلاقية منذ الشهور الأولى لحكمه.
لم ينشأ فاروق نشأة سوية، فقد التصق بأمه وكره والده لقسوته البالغة وغيرته الهوجاء على الملكة، فلم يكن ينقضى يوم من غير أن يشتمها بل إنه ضربها يوما أمام ابنها، ولم يكن فاروق يرى والده إلا نادرا، وكانت أمه ترسله لكى يتلصص على أبيه من ثقب الباب ويستمع إلى ما يدور بينه وبين مديرة القصر التى كانت للملك فؤاد علاقة خاصة معها.
ولم أكن أصدق ما ذكره كريم ثابت أقرب الناس إلى الملك فاروق عن النزعة السادية لفاروق مع الحيوانات ومع الناس أيضا، فقد ذكر كريم ثابت أن فاروق كان يشعر بتلذذ حين يقتل القطط والكلاب، أو وهو يطفئ سيجارة فى ذراع إحدى صديقاته، ولكن مرتضى المراغى يؤكد هذه النزعة السادية فى مذكراته ويصف حالته بأنها (نزعة سادية مروعة)، ويقول إن فاروق كان يراهن على قتل الحمامة فى دقيقة واحدة بأن يغرس إبرة طويلة فى رأسها، وكان يدوس القطط بسيارته حتى إنه كان يصعد الرصيف إذا حاولت الهرب ويعرض نفسه للاصطدام بالحائط ويحكى أيضا أن فاروق طلب من إحدى وصيفات القصر أن تغمض عينيها ووضع عليها شريطا لاصقا ثم أمرها بفتح عينيها فلم تستطع وأخذت تتوسل إليه وفجأة نزع الشريطين وصرخت الوصيفة من شدة الألم وعندما ذهبت إلى المرآة وجدت أن رموشها طارت!
ويقول بعد ذلك إن هذه النزعة السادية ظهرت فى تكوين الحرس الحديدى الذى كان تحت إشرافه وكان يكلفه باغتيال خصومه. والغريب- كما يقول مرتضى المراغى- أن فاروق كان يعامل كبار رجال الدولة والدين بالاحترام، وكان يقبِّل يد أمه ولا يجلس إلا بعد أن تجلس ويتقبِّل منها عبارات التوبيخ الشديدة بأدب. وظلت حالة ازدواج الشخصية معه حتى آخر لحظة من حياته.
ويحكى مرتضى المراغى- الذى كان بحكم عمله يعلم أسرار الدولة- عن سيدة يقول إنها لعبت دورا مؤثرا فى تاريخ مصر، كانت وصيفة فى القصر بعد طلاق فاروق لزوجته الملكة فريدة، وأصبحت بسرعة أحب الشخصيات إلى فاروق لجمالها وذكائها وجرأتها. وكان فاروق يصحبها فى نادى السيارات وفى رحلات الصيد وفى رحلاته على اليخت الملكى (فخر البحار) إلى فرنسا وإيطاليا وقبرص ورودس، وأوحى إليها أنه يمكن أن يأمر زوجها بأن يطلقها ويتزوجها هو، وظلت بعد ذلك تحلم بأن تصبح ملكة مصر، ولكن فاروق اختار ناريمان فتحولت هذه السيدة التى لم يشأ مرتضى المراغى أن يرمز اسمها الحقيقى واختار أن يرمز لها باسم (نهى)- تحولت إلى الانتقام من فاروق من موقعها كوصيفة فى القصر.. أصبحت على علاقة بأحد الضباط كان يسلمها منشورات الضباط الأحرار فتضعها فى ملف (البوستة) على مكتب الملك. وكانت وزارة الداخلية تراقب تليفون هذه السيدة وتليفون الضابط الذى أصبح رفيقها، وكان نص المكالمات بينهما يعرض على مرتضى المراغى بصفته وزير الداخلية، ويقول مرتضى المراغى: (عن طريق هذه المكالمات استطعت أن أجمع الكثير من المعلومات وأعرف الكثير من الأسرار الخافية علىّ والتى لم يكن من الممكن أن أعرفها إلا بهذه الوسيلة.. أدركت أن الملك تتصرف فيه هذه المرأة ويطاوعها فى كل ما تشير به كما كان قائد الجيش يتقبل توجيهاتها) وهذه قصة ليس هذا وقتها. يكفى أن نشير إلى واقعة غيرت مجرى التاريخ.
فقد رصدت أجهزة الداخلية تجمعات لعدد من صغار الضباط يوم 22 يوليو 1952، وأراد وزير الداخلية مرتضى المراغى إبلاغ الملك ولكن الملك كان يعوم فى البحر (فى الإسكندرية) مع هذه السيدة، فاضطر إلى إبلاغ أحد الأمناء فى القصر بما لديه من معلومات، وفى المساء اتصل به هذا الأمين وأبلغه بأن الملك يطلب منه الاتصال بوزير الحربية أو القائد العام حيدر باشا، ثم علم مرتضى المراغى بعد ذلك أن هذه السيدة أقنعت فاروق بأن وزارة الداخلية تريد الإيقاع بينه وبين الجيش باختلاق القصص عن نشاط بعض الضباط.. كان ذلك فى الوقت الذى كانت فيه الترتيبات لقيام الثورة قد انتهت تقريبا.. وقالت له أيضا: إن وزير الداخلية لن يتركه فى راحة أبدا.. يريد أن يجعلك تصطدم بالجيش والجيش موالٍٍ لك.. واتصل وزير الداخلية بوزير الحربية (يوم 22 يوليو 1952) فوجده فى رحلة صيد وعندما عاد فى المساء أخبره بمعلومات عن تحرك بعض الضباط، فاتصل وزير الحربية (إسماعيل شيرين زوج أخت فاروق) بالقائد العام حيدر باشا فقال له: إن ضباط البوليس يخالطون الحشاشين ولهذا يتخيلون مثلهم خيالات عن انقلابات.
وفى مساء 15 أبريل 1952 توجه فاروق إلى منزل هذه السيدة ليتناول العشاء ويلعب القمار مع بعض أصدقائه، وعند مدخل البيت أطق شخص النار على فاروق فأصاب أنطون بولى فى ساقه وكان يسبق فاروق بخطوات، وأخفى الملك عن وزارة الداخلية هذا الحادث، ولكنه طلب تعيين حارسين أحدهما أمام بيت (نهى) والآخر وراء سور البيت، ولكن وزير الداخلية- مرتضى المراغى- علم بالحادث وأن الضابط (صديقها) غادر منزله فى التاسعة صباحا وأخبر (نهى) أنه سيخرج للنزهة، فقالت له (إن شاء الله ترجع بالسلامة)، وقابلت (نهى) الضابط فى اليوم التالى فى منزله.
ويضيف مرتضى المراغى أن التحريات أفادته بأن الضباط الأحرار يطبعون منشورات فى مطبعة فى ثكنة فرقة المشاة فى المعادى فأمر بمراقبة هذه الثكنات من الخارج، فوجدوا أن هذا الضابط (اليوزباشى مصطفى) واليوزباشى خالد وهما ليسا من ضباط الفرقة يترددان على الثكنات ثم يخرجان بعد فترة ومعها حقيبتان فتأكد من صحة المعلومات التى وصلته، فلم يخطر القائد العام للجيش (الفريق محمد حيدر) لأنه كان يقول دائما عن حركة الضباط الأحرار إنها (لعب عيال) ولن يقبل أن يصله الخبر من وزارة الداخلية بدل أن يصل إليه من مخابراته العسكرية، فأمر رجال البوليس بتفتيش الثكنات مستعملا سلطته كوزير للحربية فى ذلك الوقت بالإضافة إلى كونه وزير الخارجية. وفعلاً تم ضبط المطبعة والمنشورات وجاء فيها (يا ضباط الجيش ثوروا على الملك الخائن وحكومته العميلة للاستعمار. اقضوا عليهم. إن عهد الطاغية يجب أن يزول، ورأسه يجب أن يسحق). وكانت النتيجة أن (نهى) أقنعت الملك والفريق حيدر بأن مرتضى المراغى قام بإجراء خطير بإرسال البوليس إلى ثكنات الجيش، وفى اليوم التالى أخلى سبيل الضباط، وكان نصيب وزير الداخلية التوبيخ من الملك لأن الوزير هو الذى يجب محاسبته، أما الضباط فردد الملك ما قالته (نهى) من أنه (لعب عيال)