فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 8 )
كان المفروض وفقا للدستور أن الملك يملك ولا يحكم، ووفقا للدستور أيضا كان المفروض أن نظام الحكم قائم على الفصل بين السلطات، وأن رئيس الوزراء هو المسئول عن السلطة التنفيذية، ولكن مبادئ الدستور فى أيام حكم فاروق كانت حبرا على ورق، فقد كان فاروق فى الواقع يملك ويحكم، بل إنه كان يحكم ويتحكم فى كل كبيرة وصغيرة، أى أنه كان دكتاتورا ولم يكن ملكا دستوريا وليبراليا كما أشاع من يكتبون عنه دون أن يعيشوا فى كواليس القصر مثل كريم ثابت وغيره. أما رؤساء الوزارات والوزراء فلم يستطيعوا أن يعترفوا بأنهم كانوا تابعين ومجرد منفذين للمشيئة السامية. والحكايات عن ذلك كثيرة.
يقول كريم ثابت فى مذكراته إنه بعد تعيينه فى القصر مستشارا صحفيا للملك وملازمته له اكتشف أن العلاقات بين القصر والحكومة قائمة على دستورين، أحدهما «مكتوب» ومعروف للشعب، والآخر غير مكتوب و»مكتوم» عن الشعب، وبمقتضاه كانت الحكومات المتعاقبة لا تصدر قرارا ولا تقوم بعمل إلا بعد استطلاع رأى الملك والحصول على موافقته. وعلى سبيل المثال كان جدول أعمال كل اجتماع لمجلس الوزراء يرسل إلى القصر قبل عقد الاجتماع فيأمر الملك بحذف أو إرجاء بحث بعض الموضوعات ويوافق على بحث موضوعات. وكانت جميع الترشيحات للمناصب الحكومية من درجة مدير عام فما يعلوها ترسل إلى القصر ليقول الملك كلمته فيها، بما فى ذلك المناصب الإدارية والفنية التى لا تمت إلى السياسة بصلة كمنصب مدير عام مصلحة التنظيم مثلا، وكثيرا ما كان القصر يعيد الترشيحات بعد أن يعارض فى تعيين أو ترقية بعض الأسماء، ولذلك كانت من تقاليد الحكومة أن ترشح اسمين أو ثلاثة اسماء لكل منصب ليقرر الملك من يعين فى الوظيفة من بينها.
ولم يكن وزير الخارجية يوافق على منح إجازة لسفير أو وزير مفوض فى سفارة إلا بعد عرض الأمر على القصر مع أن الملك لم يكن يعرف أسماء معظمهم. ولم تكن حركات الترقيات والتعيينات تصدر إلا بعد موافقة الملك بالنسبة لضباط البوليس ورجال القضاء والنيابة ومهندسى وموظفى الرى وأطباء وزارة الصحة وما إلى ذلك. وبالطبع كانت التعيينات والترقيات فى الجيش ووزارة الخارجية تعرض على القصر. بل كانت من التقاليد التى لا تستطيع حكومة تجاوزها أن (تستأذن) فى ميعاد المحمل، أو تغيير ملابس رجال الجيش والبوليس صيفا وشتاء، ومواعيد سفر السفراء والوزراء المفوضين إلى مقار أعمالهم، أو منح تأشيرة سفر لأى فرد من أفراد أسرة محمد على. وبالطبع كان لابد من الاستئذان أولا قبل حصول الوزراء على إجازات وقبل سفرهم للخارج وترشيح من سيقوم بأعمالهم.. وكانت تعرض على الملك جميع الكلمات التى ستلقى فى كل احتفال يحضره والكلمات التى يلقيها رؤساء الوزارات فى الإذاعة فى مناسبتى عيد ميلاد الملك وعيد جلوسه على العرش وغير ذلك من المناسبات الوطنية أو الدينية.. وهكذا كان تدخل القصر فى أعمال الحكومة.. والغريب ان زعماء الأحزاب كانوا يفعلون ذلك عندما يتولون الحكم باعتبار أن ذلك هو الأمر الطبيعى!
***
والذين يقولون إن فترة حكم فاروق كانت فترة ازدهار الليبرالية والديمقراطية يطلقون القول على عواهنه، والدليل أن الملك كان يعين ويقيل الحكومات ضاربا بالإرادة الشعبية فى الانتخابات عرض الحائط. فى بداية حكمه أقال الوزارة الوفدية صاحبة الأغلبية، وعين رئيس حزب الأحرار الدستوريين محمد محمود باشا زعيم الأقلية فاضطر إلى ضم وزراء من حزبى الأحرار الدستوريين والسعديين.
وبعد أشهر قليلة دفع محمد محمود إلى الاستقالة وعين على ماهر رئيسا للوزراء وكان رئيسا للديوان الملكى، وقبل السعديون والأحرار الدستوريون أن يعملوا تحت رئاسته، وأقر البرلمان هذا الوضع الذى تتولى فيه الحكم وزارة لم تأت بالانتخاب، واضطر على ماهر بعد ذلك إلى الاستقالة فكان المفروض إجراء انتخابات للرجوع إلى الشعب ليختار الحزب الذى يحكم وفقا للمبدأ الديمقراطى ولكن الملك اختار رجلا لا صلة له بالأحزاب هو حسن صبرى باشا ورضيت أحزاب الأقلية أن تشترك فى هذه الوزارة وصفق البرلمان لرئيس الوزراء الجديد، وبعد موت حسن صبرى المفاجئ أثناء إلقائه خطاب العرش أمام الملك فى البرلمان عين الملك حسين سرى باشا وهو ليس زعيما لأى حزب، ورضيت الأحزاب وأيد البرلمان حكومته وأعطاها الثقة.. وهكذا سارت الأحداث فى السنوات الأولى من حكم فاروق.. فكيف يقال إنه كان ملكا دستوريا وأن حكمه كان حكما ليبراليا، وأن البلاد كانت تتمتع فى أيامه بالحرية السياسية وبالديمقراطية؟
كانت المذكرات التى ترفعها الحكومة إلى الملك خالية من الرأى وكلها كانت تنتهى بالعبارة التقليدية «فى انتظار التوجيه السامى» ومازالت هذه المذكرات محفوظة فى قصر عابدين. وكانت المذكرات تعود وعليها تأشيرات بخط الشمشرجى ولم يجرؤ أحد من رؤساء الديوان الملكى أو رؤساء الوزارات على أن يقول إن معظم هذه التأشيرات بدون توقيع الملك وبخط الشمشرجى وهى مذكرات تتعلق بسياسة الدولة وشئون الحكم. وكان كبار رجال الدولة يقولون (حاضر) عندما يبلغهم الشمشرجى بتعليمات الملك وأوامره، وكان رؤساء الديوان الملكى يتعاملون مع الملك عن طريق الشمشرجى، وكان من بين رؤساء الديوان إبراهيم عبد الهادى، وحسين سرى، وحافظ عفيفى وغيرهم من الكبار.
كان هذا هو العالم المستور أو الجانب الخفى من نظام الحكم فى عهد فاروق، ومع ذلك كانت كل وزارة تعلن حرصها على مبادئ الدستور. بل إن فاروق تجاهل رئيس الوزراء فى الاجتماع الذى دعا إليه ملوك ورؤساء الدول العربية فى أنشاص على الرغم من الأهمية السياسية لهذا الاجتماع وما فى تجاهل رئيس الوزراء من إهانة، وكان إسماعيل صدقى هو رئيس الوزراء، وكل ما فعله أن ذهب إلى الملك بعد ذلك يهنئه على نجاح الاجتماع. وسافر فاروق إلى السعودية لإجراء مباحثات مع الملك عبد العزيز آل سعود ولم يستصحب معه أحدا من الوزارة بل إنه لم يبلغ رئيس الوزراء أحمد ماهر بأنه مسافر، وظن رئيس الوزراء أن الملك حين غادر البلاد على اليخت الملكى أنه ذاهب فى رحلة بحرية فى البحر الأحمر ثم فوجئ بنبأ اجتماعه مع الملك عبد العزيز وعند عودة فاروق من هذه الرحلة وجد الوزارة بكامل هيئتها فى انتظار استقباله فى ميناء السويس. وكان فاروق هو الملك الوحيد فى العالم الذى يسافر دون أن يؤلف مجلس وصاية يقوم مقامه فى غيابه، ولم يجرؤ أحد على أن يفاتحه فى ذلك الأمر الذى يتعلق بالدستور.
***
وفى كل مرة يشكل فيها حزب الأحرار الدستوريين الوزارة كانت قائمة ترشيحات الوزراء تحتوى دائما اسم حامد العلايلى، فكان الملك يشطب اسمه فى كل مرة، وحين سأله كريم ثابت: لماذا يكره العلايلى كل هذا الكره قال له الملك: أنا لا أعرفه ولكنى سمعت أنه شؤم. وقال فاروق مرة لكريم ثابت عن أحد الوزراء: هذا الوزير يعجبنى وأشار إلى أحمد مرسى بدر وزير العدل فى ذلك الوقت، فلما سأله عن سبب اعجابه به قال له: شنبه! وسمع كريم ثابت الملك يقول لرئيس مجلس النواب: عندما تؤخذ لك صورة فى المجلس يحسن أن تكون لابسا الطربوش. وسمعه مرة أخرى يقول لأحد الوزراء الكبار: عندما تخرج من مقابلة الملك ويصوروك مش ضرورى يكون فى إيدك السيجار.
يقول كريم ثابت إنه أثناء زيارة له إلى بعض الدول الأوروبية علم أن الملك حصل على أموال من بعض صفقات السلاح ومن عملية إصلاح اليخت المحروسة ومن عمليات أخرى كان له فيها نصيب مما يحصل عليه السماسرة، وحينئذ أدرك لماذا كانت وزارة الحربية تمنع جهاز المحاسبات من بحث حساباتها وخصوصا حسابات الحرب فى فلسطين وحسابات صفقات السلاح، ولذلك هاج فاروق عندما قدم مصطفى مرعى استجوابه المشهور فى مجلس الشيوخ عن الفساد والعمولات فى صفقات الأسلحة وإصلاح اليخت المحروسة وصفقة بيع اليخت فخر البحار، وغضب الملك على رئيس مجلس الشيوخ الذى طرح هذا الاستجواب، وكان الدكتور محمد حسين هيكل رئيس حزب الأحرار الدستوريين هو رئيس مجلس الشيوخ. ويضيف كريم ثابت إن فاروق منذ سنة 1950 لم يكن يستمع إلى نصائح أحد، ولم يتوقف عن مغامراته ولم يبتعد عن الأبواب التى يحصل منها على الأمل ولا يهمه ما تنبعث من هذه الأموال من رائحة الفضيحة، ولم يدرك أن عرشه أصيب بهزات تنذر بكارثة وازداد انغماسا فى القمار والسهرات وإغفال واجباته كملك، وفى هذه الفترة ساءت علاقاته برئيس لبنان، وبالوصى على عرش العراق، وبملك الأردن، وأفسد صلاته بالملك عبد العزيز بن سعود، وقضى بذلك على المكانة التى كانت له فى بداية حكمه.
ولأن استجواب مصطفى مرعى عن الرشاوى والأسلحة الفاسدة تحول إلى فضيحة مدوية أحيل الموضوع إلى النيابة العامة، وتناول التحقيق عددا من رجال الحاشية الملكية، وفى نهايته أصدر النائب العمومى (محمد عزمى) قرارا بحفظ التحقيق فأنعم الملك على رجال الحاشية المتهمين برتب ونياشين.
هل كان فاروق يعلم ما كانت تنشره الصحف العالمية من فضائحه ومجونه؟ وهل كان يعلم ما كان يردده المتظاهرون ضده بألفاظها؟ وهل علم بأن طلبة جامعة القاهرة أسقطوا صورته وداسوها بالأقدام؟ وهل كان يعلم بالنكت التى كانت تتناقلها الألسنة عنه وعن أمه وشقيقته فتحية؟
يقول كريم ثابت إن فاروق كان يعلم كل ذلك بالتفصيل وكانت ترفع إليه تقارير سرية من عدة جهات وفيها كل ما يحدث وكل ما يقال عنه بالحرف.
أكثر من ذلك.. كان يردد أنه سيكون آخر ملك لمصر.. وهذه قصة أخرى.