فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 7 )
الحكايات الصغيرة تكشف عن شخصية وعقلية آخر ملك كان يحكم مصر.
لما كان فاروق فى مدينة دوفيل بفرنسا فى صيف 1950 كانت تتردد على البارات امرأة أسبانية من بنات الهوى، ولمحها الملك فاروق فى الكازينو تحوم حول المائدة التى كان يجلس إليها، وكنت جالسا فى بهو الفندق فشاهدت هذه الأسبانية تهبط السلم على مهل فى زهو وخيلاء، فالتفت إلىّ صحفى إنجليزى كان جالسا مع زميل له على مقربة منى وقال لى: لقد أمضت ما كان باقيا من ساعات الليل وهذا الصباح مع الملك فاروق، وقال آخر: لم يكن هناك ما يدعو الملك إلى استقبالها فى حجرة غير حجرته حجزها فى آخر الطرقة، ولما اجتمعت بفاروق قال لى: لقد أمضيت هذه الليلة خارج الفندق، فقلت له: فى الحجرة رقم (1) مع فلانة، ولما قلت له كيف عرفت ذلك قال: لم أقابلها فى حجرتى حتى لا ترى ما فيها وتستطيع أن تستشهد بوصفه إذا أرادت أن تتكلم، أما الآن فلا دليل عندها على انها كانت عندى!
وفى هذه الرحلة نزل فاروق فى مارسيليا واستقل هو والحاشية السيارات فى الطريق إلى دوفيل، وقرر فجأة أن يقضى ليلة فى فندق بمدينة أوكسير، بينما تعطلت لسيارة الشمشرجى والحلاق الخاص ومعهما الحقيبة التى وضعا فيها معدات الحلاقة وملابس الغيار التى قد يحتاج إليها الملك خلال السفر، وتخلفت سيارتهما إلى أن تم إصلاحها ثم واصلا السير إلى دوفيل، وكان وصولهما فى ظهر اليوم التالى.
وقد أنهكهما التعب بعد السفر المتواصل 600 كيلو، وعندما استيقظ فاروق فى فندقه فى أوكسيرا بلغه أن سيارة الحلاق والشمشرجى وصلت إلى دوفيل، وكانت الطائرة الملكية الخاصة رابضة فى مطار مدينة دوفيل فأمر فاروق بأن تقل الطائرة الملكية الحلاق والشمشرجى من دوفيل إلى المدينة التى قضى فيها الليل وأن تنتظرهما سيارة تنقلهما من المطار إلى الفندق، وظل فاروق ملازما للفندق إلى أن وصل الاثنان ومعهما الحقيبة التى كانت فى عهدتهما لأن الملك يريد الحلاق لحلاقة ذقنه ويريد الشمشرجى وحقيبة الملابس ليغير قميصه!
وفى الصيف عندما يكون فى الإسكندرية كان فاروق يدعو بعض النساء وهن بالمايوه إلى مصاحبته للتنزه فى الميناء بزورقه البخارى (الملكى) ويشاهده ركاب السفن الراسية فتتناثر تعليقاتهم، ولم يهتم بما قيل له بأنه ليس فى الريفيرا وأنه لا يجوز له أن يفعل ما ينتقص من هيبة الملك وسمعته.
وفى شهر رمضان كان فاروق يصوم ولم يكن ذلك صعبا لأنه اعتاد فى غير رمضان تناول الغداء فى الرابعة أو الخامسة بعد الظهر، ولكنه كان إذا عطش فى نهار رمضان يشرب الماء والعصائر!
وأثناء إقامته فى الإسكندرية فى الصيف استأجر فيلا ملحقة بفندق (سمر بالاس) لتقيم فيها إحدى خليلاته، فكان كل من يقيم فى الفندق أو يمر به يجد من يقول له: هذه هى الفيلا التى استأجرها الملك لخليلته.
هذه الحكايات يرويها- وغيرها كثير- أقرب الناس إلى الملك فاروق- كريم ثابت- الذى كان يلازم فاروق ليل نهار.. ويعلق على ذلك فى مذكراته بقوله:
لقد كان فاروق متآمرا على فاروق الملك.
وكان بوللى اليونانى هو المسئول عن (الشئون الخاصة) وعن تنظيم (لقاءات) الملك الخاصة جدا فى قصر الطاهرة أو فى ركن فاروق بحلوان أو فى أنشاص أو على ظهر أحد اليخوت الملكية، وكان فاروق يعرف أغلب الراقصات المصريات والأجنبيات، وبعد انتهاء المغنيات والراقصات ينفرد هو مع إحدى (الأرتستات) الموجودات أو مع بعضهن فى ركن خاص وينشغل معها أو معهن فى حديث تكثر فيه القهقهة، بينما تكون الموسيقى منهمكة بالعزف لنفسها، ولم تكن الحفلات الخاصة التى يقيمها بعض كبار البلد ويشرفها الملك بالحضور تختلف عن ذلك.
وكانت مداعباته لصديقاته المقربات منه أن يمس المرأة التى يداعبها بسيجارة فى ذراعها أو صدرها أو أن يشهر مسدسا فى وجه أحد الجالسين معه ويضغط عليه فيندفع منه الماء ليغرق وجهه وملابسه، أو أن يقذف أحدهم بما بقى فى الكوب من ماء بعد أن يشرب منه أو أن يضرب الطربوش على رأس صاحبه أو يلقيه على الأرض، أو أن يتظاهر بأن فى يده صرصاراً وأنه سيضعه على رقبة إحداهن فتسرع النساء جميعا إلى الابتعاد وهن يبالغن فى إظهار الاضطراب والخوف، وهو غارق فى الضحك لمنظرهن، وكان يضع على الأرض عند مدخل الصالون فى الجناح الخاص به فى قصر القبة حية صناعية كبيرة حتى إذا تعثر بها زائر وظهر عليه الارتباك انبسطت أساريره وارتفع صوت ضحكته عاليا.
وكان يأمر بإعداد علبة تورته فارغة من جروبى مملوءة بالضفادع ويرسلها إلى الصديق الذى يريد مداعبته على أنها هدية ملكية، وأغرب شىء أنه كان يشعر بالسعادة بقتل القطط والكلاب!
وبمناسبة عيد ميلا الملك فاروق فى 11 فبراير 1952 دعا فاروق وناريمان نحو ثلاثين شخصا من أقاربهما وأخصائهما إلى مأدبة غداء فى اليخت الملكى قاصد كريم وكان راسيا فى نيل القاهرة فى الجهة المقابلة لفندق سميراميس وكان فى مقدمة المدعوين شقيقاته الثلاث: فوزية وفائزة وفائقة وأزواجهن، وكان البرنامج الموزع على المدعوين تناول الغداء الساعة الواحدة على اليخت الملكى وتناول العشاء فى الخامسة بعد الظهر ثم العشاء الساعة الثامنة مساء فى قصر الطاهرة.. لكن فاروق لم يصل إلى الغداء إلا بعد موعده بساعتين، وفى قصر الطاهرة لم يحضر إلا بعد موعد الشاى بأربع ساعات ونصف الساعة- فى التاسعة والنصف- ولم يأمر بفتح القاعة للعشاء إلا بعد أن ظهر الإعياء على المدعوين. وبعد العشاء ظلت الفرقة الموسيقية تعزف ألحانا راقصة لكن المدعوين لم تكن لديهم القدرة على الرقص من التعب والملل، ولكن الملك استمر ينصت إلى الموسيقى وأخيرا نهض ليأمر بالعشاء.
ودعا فاروق المجموعة نفسها بعد ذلك إلى قضاء شم النسيم على اليخت الملكى المحروسة بالإسكندرية وقيل للمدعوين إنهم يمكن أن يقضوا الليلة فى اليخت أو أن يحضروا فى الصباح فى ساعة مبكرة لأجل إفطار ملكى، وحضر معظم المدعوين بين السابعة والثامنة صباحا ولم يحضر فاروق إلا فى الواحدة ظهرا ليقول لهم:
أظن أن وقت الفطور فات وسنجعل الفطور والغداء (مع بعض) ولم يأمر بالغداء إلا فى الساعة الثانية والنصف، وكان الجوع قد بلغ مداه بالجميع، وبعد الغداء دعا فاروق بعض ضيوفه إلى (برتيته) وجلس يلعب القمار معهم نحو ست ساعات متواصلة، وطبعا كان المدعوون أسرى لا يملكون أن يغادروا قبل مغادرة الملك، وفى الساعة التاسعة وقف الملك فتهيأ الجميع للعشاء لكنه قال لهم: أنا ذاهب إلى نادى السيارات ومعى ناريمان فمن يرد أن يأتى معنا يتفضل، ومن يردد العشاء هنا على اليخت يتفضل، ولكن فلان وفلانة وفلانة لازم يأتوا معنا.. وذهب فاروق إلى نادى السيارات بسيدى بشر الساعة الحادية عشرة مساء، بينما ترك بقية المدعوين على اليخت.
بعد هذه الحكايات يصف كريم ثابت فاروق بعد ملازمته له على مدى عشر سنوات فيقول: إنه كان ذا شذوذ ونزعات ونزوات وكان غريب الأطوار والتصرفات، وكان عنيدا وعناده كان أحيانا يسبب المشاكل، وكان مستهترا، ويظلم فى بعض الأوقات، وكان مستبدا برأيه، وكان فى الحقيقة يخاف وخوفه يبلغ فى بعض الأحيان درجة الجبن، ويرضى الهزيمة ببساطة، وعندما يبلغه أن خليلة هجرها تطلق لسانها فى حقه يبعث إليها باشارات تفزعها فتمسك عن الكلام، وعندما بلغه نبأ مصرع حسن البنا مرشد الإخوان اتصل ببعض أصدقائه تليفونيا وردد لهم النبأ فرحا.
ويعدد كريم ثابت بعض ما فعله الملك فاروق كان يفرض مشيئته على الحكومات ويتدخل فى التعيينات والترقيات والتنقلات الحكومية، وضم إلى الخاصة الملكية تفاتيش بآلاف الأفدنة كانت ملكا لوزارة الأوقاف، وكان (يطرد) الوزارات ويقيلها حسب هواه، وكانت الأحزاب تتهافت على كراسى الحكم وتنفخ فى ضعفه بتهالكها فينقلب ضعفه قوة، ومن هنا كان الطغيان.. وعلى سبيل المثال عندما جاء إسماعيل صدقى باشا بمشروع معاهدة صدقى بيفن بين مصر وبريطانيا لتكون بديلا لمعاهدة 1936 أعرب فاروق عن استعداده لقبولها، ولكن ما كادت اللجنة القومية ترفض المشروع وما كادت موجة الرفض الشعبى القوية تجتاح البلاد حتى تخلى الملك عن المشروع وترك صدقى باشا ومشروعه.. وقال: إنه ملك دستورى ومكث فى قصره أسبوعا لا يخرج منه لأن الجو فى العاصمة (مكهرب) كما قال!
يقول كريم ثابت: جلست يوما أفكر لو كنت رساما وأردت أن أرسم فاروق فكيف أرسمه وخرجت بأن لا سبيل إلى ذلك إلا إذا جئت بوعاء وملأته بخليط من الألوان البيضاء والحمراء والسوداء والخضراء والصفراء والزرقاء، فاللون الذى يخرج من هذه الألوان هو الأقرب إلى الصورة المنشودة، ِلأن فاروق كان مركبا من شخصيتين، ففى المناسبات الرسمية يخرج على الناس بصورة عاقلة واعية هادئة، وكان يتقن دوره فى المقابلات الرسمية اتقانا عظيما، ولكنه فى غير هذه المناسبات والمقابلات الرسمية يتحول إلى شخص آخر، ففى سنوات الحرب العالمية الثانية كان يدعو السيدات الأمريكيات والإنجليزيات وغيرهن من الأجنبيات إلى مأدبة عشاء فى المحال العامة، وبعد ذلك أخذ يدعو (الأرتستات) الأجنبيات ويمضى معهن ساعات فى مداعبة وقهقهة، وفى بعض الأحيان كان يوصل بعضهن إلى فندقهن، ويعلق كريم ثابت قائلا: إنه ورث هذا الاستعداد الطبيعى للاستهتار من بعض أفراد عائلته ولاسيما أمه (الملكة نازلى) وشقيقته (الأميرة فتحية) وكانت فضائح الأسرة المالكة تملأ صفحات الصحف فى أوروبا وأمريكا كما كانت شائعة على ألسنة أبناء الطبقة الراقية والسياسيين ووصلت إلى الناس العاديين، وقامت مظاهرات تندد بفساد الملك وأسرته وتطالب بخلعه عن العرش.. وهذا فصل آخر من المأساة التى عاشتها مصر فى ظل حكم فاروق من سنة 1944 حتى جاءت النجدة عام 1952 برحيله