فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 6 )
امرأة حرضت فاروق على التردد على نادى السيارات لتتباهى أمام صديقاتها بأنه يهواها، فكانت النتيجة بعد مدة قصيرة أن نبذ العشيقة وعشق النادى! وامرأة أخرى علمته لعب القمار لتستهويه ولتكون دائما فى صحبته فاستهواه مجلس البوكر وهجر المرأة! كان فاروق يقضى ساعات طويلة كل ليلة تقريبا- حتى مطلع الفجر- فى لعب القمار ومع ذلك لم يقل له أحد من رؤساء الوزارات الذين تعاقبوا على الحكم- لا تصريحا ولا تلميحا- أن السهر كل ليلة فى نادى السيارات أو فى دور اللهو والكاباريهات ومجالسة «الأرتستات» أمر لا يقبله الشعب لنفسه ولملكه وإن ارتضاه هو لنفسه. لم يقل له أحد أن جلوسه فى «بار» الأندية الليلية مثل نادى «الإسكارابيه» أمر يثير الرأى العام، لأن، فيه عبثاً بهيبة العرش.. ولزمت البرلمانات الصمت.. فيما عدا رجل واحد هو المستشار مصطفى مرعى وهذه قصة أخرى.
يروى كريم ثابت- الذى لازم الملك فاروق ليل نهار خلال السنوات العشر إلى يوم رحيله يوم 26 يناير 1952- أنه فى إحدى الليالى- وكان فى الإسكندرية، ولم يجد رفقاءه فى لعب القمار لأنهم هربوا منه بعد أن نال منهم التعب من السهر المتواصل، فأمر بعض رجال البوليس الخاص بإحضارهم من بيوتهم، وتكرر ذلك أكثر من مرة. ومن ليلة العيد ظل يلعب وهو فى الإسكندرية حتى حان موعد صلاة العيد فذهب إلى القصر وأبدل ملابسه فى دقائق وخرج مباشرة إلى صلاة العيد.
وفى سنواته الأخيرة كان يلقى نظرة خاطفة على «البوستة» ولم يعد يطيق المذكرات الطويلة ويكلف الشماشرجى «محمد حسن» بقراءتها ويلخصها له شفويا. ولم يعد يقرأ شيئا من الكتب التى يوصى بشرائها فكانت تدخل إلى حجرة نومه وتخرج منها دون أن يفتح صفحة واحدة منها. وقلل من حضور الحفلات الرسمية وإنابة الأمراء عنه فى حضورها، ولم يعد يقابل كبار المسئولين إلا لضرورة قصوى، وتوقف عن الاجتماع ببعض مساعديه والإصغاء إلى آرائهم، وانقطع عن زيارة شقيقاته بحجة كثرة مشاغله، وخفت زياراته للأصدقاء الذين كان يزورهم فى بيوتهم، وقصر علاقاته على بعض «الأرتستات»، وصار يغضب لأهون سبب. فقد تحولت حياته إلى حياة «مقامر محترف» انحصر تفكيره فى شىء واحد هو متى تحين ساعة الذهاب إلى نادى السيارات لكى يلحق «البرتيتة» وكان من الطبيعى أن يؤثر ذلك فى نشاطه الذهنى فأصبح يمل سماع أى حديث جدى فى السياسة.. ولذلك مرت الأزمات التى تعاقبت منذ سنة 1950 دون أن يتنبه إلى الأخطار التى أحاطت بعرشه. وزادت بدانته زيادة مخيفة وازداد خموله البدنى والذهنى حتى وصفه كبير الأمناء «عبد اللطيف طلعت باشا» قائلا: لقد أصيب الملك باللاشعورية ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكان مستوى خليلاته يهبط مع الأيام بعد أن تهربت منه سيدات المجتمع وبعد أن نشر أخبار غرامياته ونزواته معهن بين أصدقائه وأحرج «صديقاته» من المجتمع الراقى. وفى فترة «صاحب» مغنية فرنسية كانت تعمل فى صالة الإسكارابيه بالإسكندرية اسمها «آنى بيريه». وفى ليلة دعا بعض أصدقائه وصديقاته إلى العشاء فى الإسكارابيه وأجلس المغنية الفرنسية أمامه وأمر بإحضار شمبانيا ثم قال لمدعويه: أدعوكم إلى شرب نخب آنى بيريه واقفين، ووقف الجميع بينما كانت أنظار الجالسين فى القاعة مصوبة إليهم تتساءل فى حيرة عن سر تلك المظاهرة الملكية وبعد قليل وقف مقدم البرنامج يقول: إن آنى بيريه تحتفل الليلة بعيد ميلادها، ولهذه المناسبة ستغنى أغنية جديدة!
وأغرب ما فى أسلوب فاروق فى الحكم والإدارة أن «الشمشرجى» وهو خادم يلازم الملك ملازمة دائمة ويشرف على ملابس الملك ويعتنى بها ويساعده على ارتدائها، وهو الذى يستطيع أن يقابله فى أى وقت، وهو الذى يعرض عليه الأوراق الرسمية ويسجل تعليماته وأوامره ويبلغ بها كبار رجال القصر، وحتى السكرتير الخاص للملك لم يكن يتصل بالملك إلا عن طريق الشمشرجى أو بكتابة مذكرة بما يريد إبلاغه، وقد وقف حسن حسنى باشا السكرتير الخاص للملك بعد قيام الثورة أمام محكمة الثورة وقال فى شهادته إن فاروق لم يأذن له بمقابلته طوال السنوات الثلاث السابقة للثورة!وكذلك كان حال معظم كبار رجال القصر الذين كانوا يحيطون بالملك فى حفلاته وزياراته ورحلاته ويجلسون فى الصف الأول فى كل احتفال وكانوا يجيدون مراسم البروتوكول فى الدخول والخروج، والجلوس والوقوف، والانحناء.. حتى هؤلاء كانوا لا يتصلون بالملك إلا عن طريق الشمشرجى أو عن طريق مذكرات موجزة ولا يقابلونه إلا فى النادر.
وبعد قيام الثورة وقف حسن يوسف باشا رئيس الديوان الملكى بالنيابة أمام محكمة الثورة وقال إن فاروق أوفده إلى النحاس ليبلغه أنه مستاء من محمود محمد محمود رئيس ديوان المحاسبة، وإن الشمشرجى محمد حسن هو الذى أبلغه أمر الملك بأن يزور النحاس ويبلغه هذه الرسالة الملكية. وقال أيضا إنه لم يبلغ الملك مباشرة بأنه أدى المهمة ولكن أبلغه عن طريق الشمشرجى. وحتى البرقيات السرية الواردة من السفراء بالشفرة إلى وزارة الخارجية – والصادرة من الوزارة إليهم كانت ترسل صورة منها بعد فك الشفرة إلى الملك فى ظرف مغلق مكتوب عليه (سرى جدا) على أساس ألا يفتحها إلا رئيس الديوان الملكى لكن ما كان يحدث أن الشمشرجى هو الذى يفتح المظروف ويبلغ الملك بمضمون كل برقية، وهكذا كانت أسرار الدولة تتداولها أيدى الشمشرجية.. ولم ينطق أحد من رؤساء الوزارات أو رؤساء الديوان أمام الملك بكلمة عن خطورة أن تكون أسرار الدولة فى أيدى هؤلاء، وكان هؤلاء جميعا يعرفون أن أسرار الدولة يطلع عليه الشمشرجى قبل الملك ولكنهم كانوا يحرصون على عدم النطق بكلمة يمكن أن تعكر صفو الملك.
وفى يوليو عام 1951 سافر الملك فاروق فى رحلة صيف إلى أوروبا مع الملكة ناريمان زار فيها إيطاليا وفرنسا لقضاء شهر العسل بينما كانت البلاد تغلى ونذر الثورة تبدو واضحة فى المظاهرات والغضب الشعبى وسوء الأحوال الاقتصادية والمعيشية وفساد الأحزاب، وفى أثناء هذه الرحلة أدلى الملك بحديث إلى صحيفة بريطانية نشرته على ثلاث حلقات تحدث فيها عن انغماسه فى لعب القمار، وتباهى فيها بالطريقة التى يلعب بها وشرح القاعدة التى يتبعها وقال: إننى عندما بلغت خسارتى الحد الذى حددته توقفت عن اللعب، وأضاف انه ينصح الشبان الذين يحبون لعب القمار أن يحذوا حذوه، وأجاب على سؤال لماذا كان يلعب بمبالغ كبيرة فقال: لأن ثروته الخاصة تسمح بذلك، وتحدث عن طلاقه من فريدة وزواجه من ناريمان، وأشار إلى أمور لا يليق بملك أن يعرضها على صفحات الجرائد وفى بلد أجنبى. وكان لهذا الحديث «الفضيحة» ردود فعل واسعة وتعليقات فى صحف أوربا، ولكن صدرت الأوامر بعدم الإشارة إلى كلمة منه فى الصحف المصرية ومع ذلك وصلت أصداؤه إلى القاهرة.
ولم تكن فضائح فاروق وحدها هى التى تملأ صفحات الصحف فى أوروبا وأمريكا، ولكن كانت فضائح أمه الملكة نازلى ونزواتها، وشقيقته الأميرة فتحية التى تزوجت من موظف فى السفارة المصرية فى واشنطن أشهر إسلامه من أجل هذا الزواج وكان على علاقة بالملكة فريدة أيضا. كانت هذه الفضائح مادة للصحف العالمية.
وقد لا يعلم كثير من أبناء هذا الجيل أن ملك بريطانيا منح فاروق رتبة «جنرال» فى الجيش البريطانى، وجاء دوق جلوستر «شقيق ملك بريطانيا» لتقديم براءة الرتبة ومعه الدوقة قرينته، واستقبلهما الملك فاروق فى قصر القبة. وبعد أيام دعا الملك كبار الضباط فى جيش الاحتلال البريطانى فى مصر إلى حفل شاى فى حدائق أنشاص، وكانت المفاجأة أنه حضر الحفل بالملابس العسكرية وقد علق عليها شارات رتبة جنرال فى الجيش البريطانى، ولم يراع أنه يكرم ضباطاً من قوات تحتل أرض بلاده وأن البلاد كلها تغلى بالثورة ضد الاحتلال وتطالب بجلاء تلك القوات عن أراضيها.. وكان ذلك فى ربيع عام 1950 عام الكفاح الشعبى المسلح ضد الاحتلال!
ليس هذا كل ما فى سجل الملك فاروق من حقائق تدل على أنه هو الرجل الأول الذى مهد لقيام الثورة، ليس فقط بالفساد الذى غلب على تصرفاته الشخصية وتصرفات أمه وبعض شقيقاته وكبار رجال القصر، ولكن الفساد فى إدارته لشئون البلاد كان قد أدى إلى إفساد الحياة السياسية، وإلى معاناة الشعب من الفقر والجهل والمرض وهذا هو الشعار الذى كان يتردد فى الصحافة وعلى ألسنة الناس بل وكان يتردد فى الخطب الرسمية أيضا وامتلأت الصحف بمقالات تعبر عن السخط، وعلى سبيل المثال كتب إحسان عبد القدوس مقالا بعنوان «وراء كل ثورة رغيف» نشره فى روز اليوسف يوم 24 يوليو 1951 وكان مجلس الشيوخ سينعقد فى مساء ذلك اليوم ليناقش اقتراحا للحكومة بزيادة سعر الرغيف مليما وقال فيه: لقد تجلت فى الجلسة السابقة حقيقة فاجعة كشفت عن الحضيض الذى انحدرت إليه قيمة الشعب فى نظر حاكميه.
الحضيض الذى انحدرت إليه قيمة الشعب فى نظر حاكميه. هذا هو التوصيف للحالة فى ظل حكم فاروق الذى نرى اليوم من يستدر عطفنا عليه وعلى عهده. وهذا التوصيف منشور فى يوليو 1951 والملك لا يزال فى القصر يلهو بمقدرات البلد ويستهين بالدستور وبالشعب. وهذا ما قاله الكتاب المحترمون أصحاب الضمير الوطنى.. فكيف يقول بعض كتاب هذا الزمان إن مسلسل فاروق أثار الحنين إلى عصر فاروق؟!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف