فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 5 )
 فى إحدى الليالى اصطحب الملك فاروق معه فى سيارته إحدى خليلاته وقصد بها إلى طريق السويس وأوقف السيارة فى مكان فى الصحراء. وتصادف أن كان بعض ضباط بوليس الآداب يطاردون السيارات التى يشتبهون فى أمرها، وكان يرافقهم صحفى ومصور لإعداد تحقيق لصحيفته عن جهود البوليس، وأبصروا فى طريقهم سيارة الملك دون ان يعرفوا صاحبها، فاتجهوا نحوها وسلطوا عليها أنوار سيارتهم ونزل المصور بسرعة ليصور ما يجرى داخل السيارة، ولم يجد الملك وسيلة لإبعادهم إلا بأن أطلق عيارين ناريين من مسدسه، فاكتشفوا الحقيقة وعادوا مهرولين!.
هذه القصة يرويها كريم ثابت أقرب الناس إلى الملك فاروق، وقد ظل يلازمه عشر سنوات ليل نهار. سمع القصة من الملك نفسه الذى رواها له وختمها بقوله: الإنسان لا يستطيع أن يتمتع بشىء من الحرية حتى فى وسط الصحراء!.
هكذا كانت تصرفات صاحب الجلالة المصرى فاروق الأول ملك مصر والقائد الأعلى للجيش المصرى!!.
حكم مصر 19 عاماً، وكان يتكلم العامية ويقرأ اللغة العربية ويفهمها وإن كان يغيب عنه معنى بعض الألفاظ، واللغة العربية المقصودة هى الصحف والمجلات والأوراق الحكومية لا أكثر، ولكنه كان يخطئ فى تشكيل معظم الكلمات، أما الكتابة باللغة العربية الفصحى فكان يجهلها تماماً ما عدا بعض عبارات حفظها عن ظهر قلب. ومن يصدق أن ملك مصر كان يكلف (الشمشرجية) بكتابة تأشيراته على المذكرات والأوراق الرسمية التى كانت ترفع إليه من الديوان الملكى ومن سائر مؤسسات الدولة، وكان مستوى الشمشرجية ضعيفاً بالطبع ولكن مستواه كان أضعف.. ومن يرجع إلى الوثائق المحفوظة فى قصر عابدين يجد أن التأشيرات التى كتبها بخط يده اقتصرت دائماً على كلمتين أو ثلاث كلمات، وهذه الكلمات ثابتة لا تتغير، فإن غيرها أخطأ فى الهجاء حتماً، وكل تأشيرة تزيد على ثلاث كلمات مكتوبة بخط الشمشرجية. والمعروف أن خطه باللغة العربية كان كخط التلاميذ المبتدئين أو أقرب إلى خط الأجانب الذين يتعلمون اللغة العربية.
ولم يكن ذلك سراً، بل كان جميع رؤساء الديوان الملكى المتعاقبين وكبار رجال القصر يعلمون أن التأشيرات التى ينفذون ما فيها من أوامر وتعليمات مكتوبة بخط الشمشرجية. ولهذا السبب استمر فاروق فى تكليف رئيس الوزراء بتلاوة خطاب العرش فى البرلمان كما كان يفعل أبوه الملك فؤاد الذى كان لا يعرف كيف ينطق اللغة العربية الفصحى، وكذلك كان فاروق يخشى أن يظهر عجزه إذا قرأ خطاباً طويلاً باللغة العربية الفصحى، أما خطبته التى كانت تذاع بالراديو فكان يحرص على أن تكون قصيرة، ويُشكَل له كل حرف من حروفها، وترسم له علامة ظاهرة فى موضع كل وقف، وكان يقضى وقتاً طويلاً فى التمرين على تلاوتها، ويحرص على وجود سعيد لطفى باشا أثناء التسجيل لينبهه إلى أخطائه فى نطق الكلمات، وبالرغم من كل هذه التدابير كانت الخطبة يعاد تسجيلها أكثر من مرة بسبب الأخطاء فى نطق بعض كلماتها، وحتى الخطب التى أذيعت بعد كل هذه المحاولات لم تكن تخلو من خطأ أو اثنين وكان يرفض إعادة التسجيل، ولم يكن أحد يلح عليه بتكرارها لثقة الجميع بأن المرة التالية لن تكون أفضل من سابقتها، وقد امتنع فاروق فى السنوات الأخيرة عن تسجيل أحاديث للراديو تخلصاً من العناء الذى كان يلاقيه فى تسجيلها. وعندما استقبل ممثلى الدول العربية أثناء حرب فلسطين طلب من كريم ثابت أن يكتب الكلمة التى سيلقيها أمامهم. ثم طلب من إبراهيم عبد الهادى باشا رئيس الديوان الملكى فى ذلك الوقت أن يلقيها نيابة عنه. وكان ملك مصر يجيد الحديث بثلاث لغات هى الانجليزية والفرنسية والإيطالية ولا يجيد الحديث ولا الكتابة باللغة العربية! وكانت أحاديث بناته معه باللغة الفرنسية!.
<U>لم يكمل تعليمه</U/>
والسبب فى ذلك أن والده – الملك فؤاد – مات ولا يزال تعليم فاروق ناقصاً، كان فى السادسة عشرة من عمره، وسعى إلى معالجة ذلك بالقراءة ولكنه توقف عن القراءة بعد أن أصبح وقته مشغولاً بالقمار وأصبحت قراءته مقصورة على التقارير المهمة والقصيرة وعلى المجلات الخفيفة ويحصل على المعلومات من أحاديث زواره وأصدقائه، وفى فترة مبكرة بعد توليته كان يزور من وقت لآخر الدكتور دريتون المدير السابق للمتحف المصرى ليحدثه عن تاريخ مصر القديم وآثار مصر الفرعونية ولكن فاروق لم يستمر فى ذلك طويلاً، لأنه كان يفضل الحصول على معلوماته من أحاديث من يجالسهم. وعندما زار بعض بلدان أوروبا فى صيف 1950 ثم فى صيف 1951 اقترح عليه كريم ثابت أن يزور بعض المتاحف والمؤسسات الثقافية ولكنه رفض وفضل أن يقضى وقته فى أندية القمار والكباريهات. كذلك انقطع عن القيام بالرحلات الصحراوية والبحرية التى كان يقوم بها، وصار القمار شغله الشاغل وعمله الوحيد كما يقول كريم ثابت. وحتى السينما فكان لا يشاهدها إلا عرضا على الرغم من وجود الفنيين والمعدات اللازمة لعرض الأفلام فى القصور الملكية. وحكى الياس اندراوس وكان صديقا للملك ومستشاره الاقتصادى- وأحد الذين شاركوا فى إفساده- أن آخر مرة شاهد فيها السينما كانت فى قصر القبة، وكانت ناريمان وبعض قريباتها يشاهدن فيلماً جديداً فى قاعة السينما فدخل عليهن – مع إلياس اندراوس باشا- وطلب منهن الانصراف وأمر بعرض فيلم كارتون (ميكى ماوس).
كذلك لم يحضر فاروق خلال السنوات العشر الأخيرة من حكمه سوى مسرحيات تعد على أصابع اليد. وكانت التقاليد تضطره إلى افتتاح موسم الأوبرا رسمياً فكان يذهب متبرماً متأففاً ويفلت من هذا «الواجب» فى بعض الأحيان. وإذا ذهب لا يبقى حتى النهاية وينصرف فى منتصف العرض بحجة كثرة المسئوليات، ويكمل السهرة حول مائدة القمار، أو فى أحد الأندية الليلية.. وكان يكره الموسيقى الكلاسيك.. ويضيف كريم ثابت إن الملك فاروق لم يكن ذوقه فى الفنون الجميلة ينم عن ثقافة عالية أو روح فنية، ولم يهتم يوماً باقتناء لوحة فنية أو تمثال نادر.
ويحكى كريم ثابت أنه فى ليلة واحدة صحبه الملك فاروق إلى فندق شبرد ثم إلى كباريه «حلمية» ثم إلى كباريه «الاسكارابيه» وانتهت السهرة قبيل الفجر، ولم يستطع كريم ثابت طبعاً أن يفسر لماذا كان يكرر التردد على أكثر من ملهى فى الليلة الواحدة.
لقد عاش فاروق سنوات عمره الأولى وهو لا يصاحب إلا الخدم إلى أن بلغ الخامسة عشرة من عمره وسافر إلى إنجلترا ليكمل تعليمه، ولم يكمله لوفاة والده وعودته لتولى الحكم وهو فى السادسة عشرة صغير السن وبلا خبرة ولا تعليم، وفى انجلترا لم يتفرغ للدراسة ولكنه استسلم لإغراء أحمد حسنين باشا الذى كان يرافقه فى قضاء السهرات فى الملاهى الليلية.
<U>ملك لا يعرف بلده!</U/>
ومن الغريب أن الملك الذى كان يحكم مصر لم يكن يعلم شيئا عن بلده حين جلس على العرش. فمن يصدق أن «الأمير فاروق ولى العهد» لم يزر الأهرام أول مرة إلا وهو فى الخامسة عشرة من عمره، ولولا سفره إلى انجلترا للتعليم لما ذهب لمشاهدة الأهرام. فقد تقرر أن يزور بعض المعالم خشية أن يسأله أحد فى انجلترا عنها فيقول إنه لم يزرها أو أن يسأله أحد عن آثار توت عنخ أمون فيقول إنه لم يرها لأنه لم يزر المتحف المصرى، أو أن يُسأل هل شاهد أسدًا فيقول إنه لم يزر حديقة الحيوان، ومع ذلك فلم يشاهد من مصر قبل سفره سوى الأهرام والمتحف وحديقة الحيوان، وحتى بعثته فى انجلترا لم تكتمل فقد عاد بعد بضعة أشهر لوفاة والده. وهكذا تولى العرش وليست لديه ثقافة أو خبرة بالدنيا أو معرفة بالبلد الذى يحكمه.
وعن سلوكه الشخصى يقول كريم ثابت إن الملك فاروق كان يستولى على الأموال التى تصل إليه ليوجهها إلى المشروعات الاجتماعية، وذلك بعد أن بدأ يهرب أمواله إلى الخارج لينفق منها على لعب القمار، ويحكى قصصاً كثيرة جداً عن تصرفاته فى الاستيلاء على ما يعجبه فى بيوت من يزورهم ومنها أنه أعجبته نجفة فى بيت ناريمان أثناء فترة الخطبة فقال لوالدها: أرسلها إلىَّ غداً وذات ليلة أقام فاروق مأدبة عشاء خاصة فى أوبرج الأهرام وكان من بين المدعوين رجل أعمال أمريكى يدعى «المستر ريدكر» وأثناء العشاء أخرج هذا الضيف من جيبه علبة سجائر من الذهب وولاعة من طرازها، وأبدى الحاضرون إعجابهم بهما فقال إنها هدية من زوجته قبل أن تموت فى حادث طائرة، وبعد انتهاء السهرة وفى طريق العودة اكتشف الضيف اختفاء علبة السجائر والولاعة وعاد إلى الأوبرج للبحث عنها دون جدوى، ولم يخطر على باله أن الملك هو الذى أخذهما خلسة.. ويذكر كريم ثابت حالات كثيرة متشابهة.. وحتى شقيقته (الامبراطورة فوزية) عندما عادت إلى مصر استقبلها فى مطار الإسكندرية وأمر خدمه بأن يجمعوا حقائبها فى حجرة معينة، وبينما كانت مشغولة بالحديث مع شقيقتها فائزة كان هو مشغولاً بفتح الحقائب والاستيلاء على ما يعجبه فيها، وعندما تعذر عليه فتح بعض الحقائب بما عنده من مفاتيح لم يتردد فى كسر أقفالها.. ولم تفتح فوزية فمها بعد أن همس أحد الخدم فى أذنها بأن «مولانا» هو الذى فعل ذلك، وقالت بعد ذلك لبعض صديقاتها إن الذى آلمها أكثر أنها رأت بعض صديقات فاروق يلبس بعض ما أخذه من حقائبها.. وحتى خليلاته كان يسرق منهن مجوهرات ليهديها إلى غيرهن وهذا ما اكتشفته إحداهن عندما أهداها الملك علبة «بودرة» من الذهب ومحلاة بأحجار كريمة واكتشفت أن عليها حرفين لاسم سيدة أخرى تعرفها وتعرف أنها من خليلاته!.
حكايات.. فضائح.. يخجل الإنسان من أن يقول إن هذا كان ملك مصر.. هل تريدون المزيد؟!.. ما يزال هناك الكثير!


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف