فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 3 )
فى صيف 1951 كان الملك فاروق فى مدينة دوفيل بفرنسا، وكانت أخبار فضائحه تملأ الصحف وهو يتردد على كاباريه هناك وقد وعد صاحبه باستقدام راقصة من القاهرة لإحياء ليالى المدينة الفرنسية الصاخبة. وتقدمت الراقصة- بناء على الأمر الملكى- بطلب تأشيرة الخروج ولكن وزير الداخلية (فؤاد سراج الدين) رفض السماح لها بذلك، وحدثت أزمة بين القصر والحكومة بسبب الراقصة. وفشلت الحاشية الملكية فى إقناع وزير الداخلية بأن سفر الراقصة (إرادة ملكية سامية) لا تملك للحكومة إزاءها إلا التسليم والطاعة. ويذكر صلاح الشاهد الذى كان قريبا جدا مما يجرى فى الدهاليز أن الملك اتصل بنفسه بوزير الداخلية ولكن الوزير رفض طلب الملك وقال له إن سفر الراقصة فى وجود الملك فى نفس المدينة فيه مساس بالعرش وبسمعة البلاد.
وبسبب الراقصة وصلت العلاقة بين القصر والحكومة إلى حد التوتر الذى ينذر بحدوث شىء للحكومة، وأشار خصوم الوفد على هذه الراقصة (الملكية) بأن ترفع دعوى أمام مجلس الدولة ضد وزير الداخلية شخصيا لإلغاء القرار والحكم عليه بالتعريض لمساسه بالحرية الشخصية للراقصة، وصدر الحكم من مجلس الدولة برفض الدعوى باعتبارها تدخلا فى سلطة الإدارة وهى أعلم بمصلحة البلاد. ولم تسافر سامية جمال كما طلب الملك!
هكذا كان الحال فى مصر وهذا ما كان يشغل فاروق الأول ملك مصر!
قصة أخرى لم يلتفت إليها كثيرون يرويها صلاح الشاهد. فى أثناء محاولة تشكيل وزارة نجيب الهلالى- فى أواخر أيام فاروق- كان حاضرا على أمين ومصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل ودخل حافظ عفيفى رئيس الديوان الملكى واقترح تعيين القائمقام إسماعيل شيرين بك زوج الأميرة فوزية وزيرا للحربية فوافق الهلالى باشا دون أن يقتنع، ويقول صلاح الشاهد إن تعيين إسماعيل شيرين وزيرا للحربية الذى كان الشرارة التى أثارت الغضب فى الجيش كان بناء على اقتراح وإصرار حافظ عفيفى وكان ذلك تأكيدا لرأى النحاس بأن حافظ عفيفى هو رجل أمريكا فى القصر. ويبدو أنه أراد بتعيين إسماعيل شيرين وزيرا للحربية إثارة الخواطر وتهييج المشاعر ضد الملك والتعجيل بثورة الجيش وهذا تفسير يحتاج إلى نظر. ويستكمل رواية القصة فيقول إن إسماعيل شيرين- فى وقت حلف الوزراء لليمين أمام الملك- رفض أن يحلف اليمين، وحاول أن يقبل يد الملك وقال له والدموع فى عينيه: يا مولاى، أنا خادم العرش، والعرش فى خطر، ولن ينقذ العرش إلا شخص واحد هو النحاس. وأجفل الملك، ولكن إسماعيل شيرين استمر يقول: يا مولاى. نحن أمام بوادر انقلاب فى الجيش، وسوف يطيح بالعرش. وأنا مخلص لجلالتكم، وأطالبكم بإنقاذ العرش المفدى، وأرجو أن تكلفنى بأن أذهب بطائرة خاصة لإحضار النحاس باشا من أوروبا وأنا كفيل بأن الشعب سوف يهتف للعرش وبجلالتكم. يقول صلاح الشاهد إن الملك ابتسم، ووافق فى النهاية واستعد إسماعيل شيرين للسفر ولكن حافظ عفيفى- رئيس الديوان الداهية- تدخل لمنعه من السفر وقال ساخرا: إن إسماعيل شيرين قليل التجربة فى الحياة السياسية ولن ينضج بعد، ولو تولى النحاس رئاسة الوزارة فسوف يشارك فى خلع الملك. واقتنع الملك. وهذه القصة تدل على أن الملك كان يعلم بحالة التذمر الشعبى وانعكاساتها فى الشعب ولم يهتم بذلك. وقامت الثورة بعد ثلاثة أيام فقط.
<U>كان يعلم.. ولم يدرك</U/>
هذه القصة تكشف أن بوادر الثورة كانت معروفة للملك ولمن حوله ولكن عمى القلوب والنفاق والعداوات الشخصية ومكائد القصر وفساد الحاشية كل ذلك جعل الملك يصل إلى درجة من التضليل جعلته لا يرى أو يصدق الحقيقة، ولم تكن لديه الكفاءة لتقدير الموقف والتصرف فى الأزمات. باختصار كان ملكا قد فقد الصلاحية بعد أن أصبح فاقدا للشرعية، هذا ما يقوله كريم ثابت صديقه المقرب الذى لازمه ليلا ونهارا عشر سنوات كاملة!
الغريب أن اللواء محمد نجيب بعد انتخابه رئيسا لنادى الضباط والأزمة التى نشبت مع القصر بسبب انتخابه وانتخاب قائمة الضباط الأحرار كان موضوعا تحت الرقابة ورجال البوليس السرى يحومون حول منزله، وكان بعض الأشخاص يحاولون استدراجه للحديث عن نوايا الضباط. وكانت منشورات الضباط الأحرار قد بدأ توزيعها على نطاق واسع، وعلم محمد نجيب من اللواء أحمد فؤاد صادق بأنه سوف يقبض عليه ويوجه إليه اتهاما بتزعم حركة ثورية داخل الجيش. والدليل على أن بوادر الثورة كانت معروفة أن وزير الداخلية (الدكتور محمد هاشم) دعا محمد نجيب إلى منزله ودار بينهما نقاش عن حالة التذمر فى الجيش وكان محمد نجيب يرجع ذلك إلى الأسلوب الدكتاتورى للسلطة فى حكم البلاد. وقال محمد نجيب بعد ذلك أن الوزير عرض عليه منصب وزير الحربية لإزالة أسباب التذمر، ولم يكن هذا الترشيح جديدا ولكن القصر كان يعارضه بشدة فى كل مرة، أما هذه المرة فإن محمد نجيب هو الذى اعتذر عن قبول المنصب وشعر بأنها مناورة لإبعاده عن الجيش. وذكر محمد نجيب لصلاح الشاهد إن وزير الداخلية صمم على أن تكون عودته من هذه المقابلة فى سيارة الوزير وليس فى سيارة محمد نجيب وفهم محمد نجيب من ذلك أن هناك مؤامرة لاغتياله. ويقول صلاح الشاهد إن محمد حسنين هيكل جاء فى صباح اليوم التالى مبكرا مع الصاغ جلال ندا لسؤال نجيب عما دار فى مقابلة الأمس مع وزير الداخلية، وفى أثناء ذلك حضر البكباشى جمال عبد الناصر والصاغ عبد الحكيم عامر على غير موعد، وفى هذه الجلسة تحدد موعد الثورة وإن كان هيكل لم يعلم به.
واقعة أخرى يرويها صلاح الشاهد الذى يعلم كثيرا من الخفايا والأسرار ففى ليلة قيام الثورة (22 يوليو 1952) يقول: طلبتنى أصيلة هانم والدة الملكة ناريمان للذهاب إلى منزلها بالإسكندرية، وهناك وجدت الملك، وقالت أصيلة هانم إنه يبدو أن فى القاهرة حركة غير عادية للجيش وطلبتك لإبداء رأيك، فتوجهت إلى الملك قائلاً: جلالتك تلبس بدلة الماريشالية وتتوجه إلى رئاسة الجيش فى القاهرة وتقابل ضباط الحركة وتبحث معهم مطالبهم، فرد الملك: أنت عاوزنى أروح أسلم نفسى علشان يغتالونى أو يعتقلونى.. لا.. لن أذهب مهما كانت الظروف. ويستكمل صلاح الشاهد القصة بقوله إن أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة قال له فيما بعد إنه كان فى تقديرهم أنه إذا حضر الملك إليهم وأقر وجهة نظرهم فسيعودون إلى الثكنات!
ويقول صلاح الشاهد إن السفير الأمريكى- جيفرسون كافرى- هو الذى حضر أحداث ثورة 1952 جميعها، وكان هو السفير الوحيد فى وداع فاروق عند رحيله، وفى حفلة نادى الروتارى فى سبتمبر 1953 صرح كافرى بأنه ما وضع قدميه فى بلد إلا وكان وراءه انقلاب عسكرى، وإن مصر هى رابع بلد يعمل بها سفيرا ويحدث بها انقلاب عسكرى، والدول الثلاث الأخرى من دول أمريكا اللاتينية.
كلام له دلالة!
هذه بعض حكايات صلاح الشاهد الذى كان شاهدا على عصر فاروق وعصر الثورة وعايش الكثير من أحداث العهدين.. وبقية الحكايات فى كتابه، وبالمناسبة الكتاب من منشورات دار المعارف وصدر فى سنة 1976.
<U> شهادة واحد من البطانة
</U/>
ولا تقل عن هذه الذكريات فى الأهمية مذكرات كريم ثابت التى صدرت فى جزءين وكتب مقدمتها الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل وأصدرتهما دار الشروق وتلقى هذه الذكريات الأضواء على ما وصل إليه الملك وحاشيته وكثير من السياسيين القريبين منه من فساد. ويصف الأستاذ هيكل عصر فاروق بأنه كان بين أحوال داخلية متهالكة وأثقال خارجية ساحقة. وكان فاروق مصابا فى حياته العائلية بنوع من النحس لم يعطه الفرصة لتحقيق التماسك المعنوى والتوازن النفسى، فقد كان متعلقا بأمه الجميلة متباعدا عن أبيه القاسى ثم اكتشف أن (اليشمك) الأبيض الرقيق الذى تضعه الملكة نازلى حجابا على شفتيها طبقا للتقاليد العثمانية لم يحجب شيئا، ثم أولع الملك الشاب غراما بزوجته الأولى (فريدة) ثم اكتشف أن المسحة الملائكية التى تكسو تقاطيع وجهها لم تكن إلى هذا الحد ملائكية! وفى موضع آخر يذكر الأستاذ هيكل أن الملكة فريدة كانت على علاقة بضابط إنجليزى! ويقرر أن تركيب شخصية فاروق كانت من أغرب ما عرفت قصور مصر. ويقول إن الدائرة الأقرب إلى فاروق- بصرف النظر عن أسرته وزوجاته وعشيقاته- كانت تضم ستة رجال ونساء بعضهم فى الضوء وبعضهم فى الظل. فى دائرة الضوء كان كريم ثابت مستشاره الصحفى وزوجته هيلانة وقد اشتهرت باسم (توتة) والدكتور يوسف رشاد طبيبه الخاص وزوجته ناهد رشاد وكانت وصيفة شرف للملكة، وهؤلاء الأربعة كانوا نجوم دائرة الضوء فى حياة فاروق، وصحبته فى كل مجتمع، ورفاقه حيث ذهب. وأما دائرة الظل فكان فيها رجلان هما محمد حسن الشماشرجى المكلف بالخدمة الخاصة للملك، وأنطونيو يوللى اليونانى الأصل مدير شئونه الخاصة، أولهما كان داخل الجناح الملكى حيث يقوم الملك وينام، والثانى كان يلازم الملك فى أوقات اللهو فى أى ساعة وأى مكان.
ويضاف إلى هؤلاء الفاسدين المفسدين أحزاب القصر التى نشأت بإيعاز الملك والحاشية، وكانت أحزابا هشة معزولة عن الناس.. كانت عالة على الملك وحكمه وكانت تعتمد عليه فى وجودها فى السلطة بدلا من أن يعتمد هو عليها فى إصلاح الأحوال. لم يكن لحكومات هذه الأحزاب سند إلا تلبية كل ما يطلبه الملك سواء كان لصالح البلاد أو لم يكن، وسواء كانت مقتنعة أو غير مقتنعة، وكان الشعب يطلق على وزراء هذه الحكومات لقب المستوزرين (وهو لقب شبيه بلقب عبده مشتاق هذه الأيام). وأدت هذه العوامل مع العوامل الاقتصادية (الفقر والإقطاع والرأسمالية المستغلة) إلى تسلل الأحزاب الشيوعية وإلى عنف الجماعات الإسلامية.. وزادت حدة التوتر بزيادة التناقضات الاجتماعية والفكرية داخل المجتمع وبالذات بين الشباب. وعاشت مصر فترة غليان كان يتفجر فى المظاهرات اليومية فى أنحاء البلاد.
هكذا كان فاروق وعصره.. والبقية تأتى