الحلــم الإســـرائيلى

فى أغسطس 1982 قامت رابطة خريجى الجامعات الأمريكية العرب بنشر وثيقة إسرائيلية تتضمن خطة استراتيجية لتقسيم كل دولة من الدول العربية إلى دويلات صغيرة يسهل إخضاعها والسيطرة عليها وتحقق الأمن لإسرائيل إلى الأبد. ولم يكن من السهل أن يأخذ العرب هذه الوثيقة مأخذ الجد على الرغم من علمهم أن مشروع إقامة دولة إسرائيل ذاتها كان يبدو نوعًا من الخيال المستحيل حين صدر عن المؤتمر الصهيونى فى بازل عام 1798. وعلى الرغم من شواهد ظهرت بعد ذلك وبخاصة فى هذه المرحله - مرحلة التمزق الداخلى والصراعات السياسية والعرفية والطائفية التى تفجرت فى المنطقة العربية.
الوثيقة كانت بعنوان «الخطة الصهيونية فى الثمانينات» ونشرها لأول مرة باللغة العبرية «إسرائيل شاهاك» الأستاذ بالجامعة العبرية فى القدس ورئيس جماعة حقوق الإنسان المدنية فى ذلك الوقت، وكتب فى مقدمتها أن هذه هى الخطة المفضلة لما تعتزم إسرائيل أن تنفذه فى الشرق الأوسط وهى خطة قائمة على تقسيم المنطقة وإنهاء الكيانات الكبيرة القائمة.
وأشار إلى ما كشف عنه « زيف شيف» الخبير العسكرى الإسرائيلى فى مقال فى صحيفة (هأرتس) قال فيه:( إن أفضل ما يمكن أن يحدث فى العراق لتحقيق مصالح إسرائيل هو تجزئة العراق إلى ثلاث دول، دولة شيعية فى الجنوب، ودولة سنية فى الوسط، والثالثة كردية فى الشمال، وعلق «إسرائيل شاهاك» على ماكينة «زيف شيف» قائلًا: « الواقع أن هذا الجانب من جزء من خطة قديمة».
***
الخطة الاسترتيجية الإسرائيلية ظهرت لأول مرة على شكل مقالة نشرت باللغة العبرية بقلم «أوديد ينون» فى مجلة «إتجاهات» فى العدد رقم (14) الذى صدر فى فبراير 1982 وهذه المجلة تصدرها إدارة النشر بالمنطقة الصهيونية العالمية فى القدس، ثم ترجمها «إسرائيل شاهاك» من العبرية إلى الإنجليزية،وكتب لها مقدمة قال فيها إن العلاقة القوية بين ما جاء فى هذه الوثيقة والتفكير اليمينى المحافظ الجديد فى الولايات المتحدة علاقة واضحة، وتكشف أن ما تعلنه إسرائيل من هدفها الأساسى هو الدفاع عن الغرب والمصالح الغربية ليس هو الهدف الحقيقى وإنما الهدف الحقيقى - الذى تسرب مؤخرًا - هو تحويل إسرائيل إلى قوة عالمية!
ماذا تقول هذه الخطة الاسترتيجية؟
تقول فى البداية إن إسرائيل محتاجة إلى منظور جديد لموقعها واهدافها القومية، وأن تعمل على تحقيق هذه الأهداف فى المدى المتوسط على النحو الأتى:
بالنسبة لمصر فأن تجزئتها إلى أكثر من إقليم جغرافى متميز هو الهدف الأساسى لإسرائيل على جبهتها الغربية، وإذا نجحت خطة تجزئه مصر فإن بلادًا مثل ليبيا والسودان وغيرهما لن يكتب لها البقاء على ماهى عليه وستلحق بمصر، ومصر يمكن تقسيمها إلى دولة فى الصعيد ودولة فى الدلتا.
ونقف هنا لحظة لنشير إلى مقال للمفكر السياسى الكبير الدكتور قدرى حفنى المنشور فى الأهرام فى 28 فبراير 2013 و الذى ذكر فيه ما أشار إليه المتحدث العسكرى العقيد أركان حرب أحمد محمد على يوم 12 يناير 2013 عما جرى فى سيناء فى يوم مشهود له دلالقة الخطيرة،ففى هذا اليوم وجهت إسرائيل الدعوة لوكالات الأنباء العالمية وشبكات التليفزيون ومندوبى الصحف العالمية لحضور مؤتمر صحفى فى مدينة الحسنة بوسط سيناء يعلن فيه موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى عن مفاجأة فى حضور شيوخ وعواقل قبائل سيناء ليعلنوا على العالم المفاجأة التى ستهز مصر وتبطل دعواها فى سيناء لأن شيوخ سيناء سيعلنون رغبه أهالى سيناء فى إعلان سيناء دولة منفصلة،وتم تفويض الشيخ سالم الهدش من قبيلة البياضية لإعلان ذلك بإسم شيوخ وعواقل وأهالى سيناء،ووقف الرجل أمام كاميرات التليفزيون وعلى الهواء أعلن بصوت عال « إن سيناء مصرية»، مائه فى المائه ولا يملك أحد من أبنائها التفريط فى شبر واحد من أرضها ومن يريد الحديث عن سيناء عليه أن يتكلم مع زعيم مصر «جمال عبد الناصر» وكانت هذه لطمة وفضيحة لإسرائيل ولكنها كانت تكشف فى الوقت نفسه النوايا التى يمكن أن تفشل إسرائيل فى تحقيقها مرة ولكنها بطبيعتها - تكرر المحاولة عشرات وحتى مئات المرات.
***
واسترتيجية إسرائيل فى هذه كان المقرر أن يبدأ تنفيذها فى الثمانينات ولكن الظروف لم تمكنها من ذلك فتأجل التنفيذ إلى أن يتم تهيئة الظروف المناسبة ويمكن إثارة القلاقل الى تمهد للتمزق. وقد نشرت هذه الخطة فى الأهرام فى الثمانينات بعد أن تلقيت نسخة منها عن طريق رابطة العرب خريجى الجامعات الأمريكية وكان هدفى أن أعلنها لكى تتحقق الجهات المسئولة عن مدى صدقها. وانتظرت أن أسمع أو أقرأ كلمة تكذيب فلم يحدث. وأخيرا نشر الدكتور حسن نافعه أستاذ العلوم السياسية المعروف خمس مقالات فى « المصرى اليوم» فى فبراير 2013 عن هذه الخطة وبعد أن تحقق منها قال إنها تعبر عن حقيقة ما يدور داخل العقل الصهيونى حول مستقبل المنطقة.
أما بقية الخطة كما نشرتها فى الأهرام وأكدها الدكتور حسن نافعه فهى كما يلى:
على الجبهة الشرقية لإسرائيل: تجزئة سوريا والعراق إلى أقاليم عرقية أو دينية وكذلك تقسيم لبنان. فى سوريا دولة شيعية علوية على طول الساحل السورى، ودولة سنية فى الشمال(!) ودولة للدروز ويمكن أن تكون فى الجولان او حوران وشمال الأردن.
وبالنسبة لشبه الجزيرة العربية فإن تشجيع الإنقسامات الداخلية يمكن أن تنتهى إلى تقسيم الكيانات السياسية القائمة.
وبالنسبة للأردن: فتقول الوثيقة إن الأردن هدف استرتيجى مباشر على المدى القصير وسياسة إسرائيل يجب أن توجه إلى تصفية الأردن، وتقول الوثيقة: إن حل مشكلة العرب فى إسرائيل وهم أقلية لن يكون ممكنا إلا إذا اعترفوا بدولة إسرائيل اليهودية ضمن حدود تمتد من نهر الأردن إلى ما يمكن أن تعمل اليه إسرائيل فى عصرها النووى،لأنه لم يعد ممكنا أن يعيش ثلاثة أرباع سكانها اليهود على الشريط الساحلى الضيق،وتوزيع السكان هدف استرتيجى ويهودا وسامرا والجليل هى الضمانة الوحيدة لوجود إسرائيل وألا فسنكون مثل الصليبيين الذين فقدوا هذه البلاد وهم عموما أجانب ولم تكن هذه بلادهم أما بالنسبة لإسرائيل فإن هذا بلدها ويجب أن تعمل على إعادة التوازن فى البلاد سكانيا واقتصاديا وأن تسيطر على مصادر المياه فى بئر سبع حتى الجليل الأعلى واستيطان الأجزاء الجبلية من البلاد.
***
أما وضع الفلسطينيين هذه الاستراتيجة فهو محدد بحقهم فى إقامة دولتهم المستقلة ولكن خارج حدود اسرائيل الآمنة أى فى المنطقة الواقعة وراء الضفة الأخرى لنهر الأردن. ولهذا تقول الوثيقة: إن الأردن هو فلسطين، وبمجرد أن تسيطر الأغلبية الفلسطينية على الحكم لتصبح هناك دولة فلسطينية وتكون هى الحل للقضية، ويعلق الدكتور حسن نافعه على ذلك بأن مثل هذا الطرح يبدو نوعا من الهرطقة لكن يعكس من المنظور الصهيونى رؤية التيار الأكثر تأثيرًا فى الفكر وفى الواقع على مدى تاريخ الحركة الصهيونية.
وفى تأكيده على إمكان تحقيق هذا « الحلم الصهيونى» يرى أن الدول العربية التى تبدو فى ظاهرها كبيرة أو قوية قابلة للتحلل إلى مكونات صغيرة لا تشكل تهديدا لإسرائيل على المدى الطويل.. ويلفت الدكتور حسن نافعه نظرنا إلى أن الدولة التى ورد ذكرها فى هذه الاستراتيجية المنشورة منذ مايقرب من ثلث قرن تبدو هى ذات الدولة التى شملها مشروع الشرق الأوسط الكبير الذى طرحته الإدارة الأمريكية عقب إعادة انتخاب جورج بوش الابن لفترة ولايته الثانية فى نوفمبر 2004 ولم يتحقق وبعد ذلك اندلاع الثورات فى عدد من البلاد العربية وما فيها من تفاعلات يمكن أن تؤدى إلى إحياء الأمل فى مشروع التفتيت فى طبعته القديمة أو فى طبعة أخرى منقحة خصوصا بعد أن فتحت تداعيات الثورات العربية باب الأمل فى تحقيق ما تأجل تحقيقه خصوصا بعد أن بدأت الفتن تستشرى. وقد قام مركز الزيتونة الفلسطينى مؤخرا بنشر أربع خطط إسرائيلية لإعادة رسم الحدود وتقسيم الدول العربية تحت عنوان « الشرق الأوسط:خرائط جديدة ترسم».
كالعادة سيقول البعض هذه أضغاث أحلام إسرائيلية وأفكار خيالية يستحيل تحقيقها،وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن الحذر واجب، وعلينا أن نتذكر المؤتمر الصهيونى فى بازل حين أعلن هيرتزل عن الدولة الصهيونية كان ذلك فى سنة 1897 وكان رأى القادة العرب أن هذه تخاريف وخيالات وأحلام مستحيلة إلى أن فوجئوا بدولة إسرائيل على الأرض فى 1948 وبشرعية قرار من مجلس الأمن،واعتراف معظم دول العالم، وبشرعية السلاح.
ولقد حذرت فى الثمانينات وحذر اخرون وأنذروا.. إنذارًا أخيرًا والويل لنا إذا لم ننتبه ونحافظ على وحدة بلادنا من دعاة الفتن وإثارة النعرات الدينية أو العرقية أو الطائفية.. فهذه هى بوابة الشيطان!
وقد تكون هذه تخاريف، وقد تكون أحلاما مستحيلة.. ولكن - مرة أخرى - الحذر واجب،ولا بد أن تكون الشعوب العربية متنبهة وعلى وعى بمثل هذه السيناريوهات.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف