فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 1 )
فى مسلسل الملك فاروق حاولت مؤلفته الدكتورة لميس جابر إقناعنا بثلاث قضايا: الأولى: أن النحاس باشا زعيم حزب الوفد كان يخوض المعارك مع الملك دفاعا عن الديمقراطية والدستور، وهذه القضية صحيحة تاريخيا, الثانية: أن الملك فاروق كان وطنيا ومشغولا بمصالح البلاد وحريصا على رعاية الشعب رعاية كاملة كما أقسم على ذلك فى بداية عهده، والقضية الثالثة: أن الثورة قامت بدون مقدمات شعبية لمجرد خلاف بين الضباط الأحرار والملك حول تشكيل مجلس إدارة نادى الضباط واختياره لوزير الحربية الذى لا يرضى عنه الجيش. والقضيتان الأخيرتان فيهما مخالفة للواقع التاريخي.
لا يختلف المؤرخون على أن النحاس باشا تولى رئاسة الوفد بعد الزعيم الوطنى سعد زغلول، وهو زعيم تاريخى كان موضع إجماع الشعب بصورة نادرة، بل إن الشعب هو الذى جعله زعيما ولم يكن هو الذى سعى إلى ذلك. ولم يكن الوفد فى عهده حزبا بالمعنى الدقيق ولكنه كان حشدا شعبيا ضم كل الفئات والطبقات من الباشوات وكبار ملاك الأراضى إلى شيوخ الأزهر وكهنة الكنيسة إلى الطلبة والعمال والفلاحين. وسار الجميع خلف قيادته من أجل هدف واحد هو النضال لتخليص البلاد من الاحتلال البريطانى وإقرار نظام حكم ديمقراطى واستعادة ثروات البلاد المنهوبة. وبعد سعد ظهرت الخلافات بين زعماء الوفد التى كان يحجبها سعد بشخصيته الكاريزمية، ووقع بعضهم فى الفخ الذى نصبه القصر والانجليز بسياسة (فرق تسد) وشكل كل منهم حزبا لم تكن له شعبية ولكن الحرص على المناصب والثروة أدى فى النهاية إلى إفساد الحياة السياسية، مما أدى إلى حتمية قيام الثورة.
ومع حرص المسلسل على أن يجعل المشاهد يحب فاروق وعصره ورجاله لم يتناول بالتفصيل فساد الملك الذى كان يملك إقطاعيات بآلاف الأفدنة فيما كان يسمى (الخاصة الملكية) وكان يملك الأرض والفلاحين الذين كانوا يعملون فى نظام أقرب إلى السخرة. وهكذا كان بقية أفراد العائلة المالكة.
أما أن الملك فاروق كان ذا شخصية بسيطة خفيف الدم يحب الناس البسطاء فهذه مسألة تتعارض مع الحقيقة، وتؤدى إلى تضليل الأجيال التى لم تعايش أو تقرأ أو تسمع عن أحوال البلاد فى ذلك العصر والعوامل التى أدت إلى قيام الثورة، التى كانت تعبيرا عن إرادة الشعب ولم تكن تعبيرا عن غضب مجموعة من الضباط أو تطلعهم إلى السلطة.
والمؤرخ الكبير الدكتور لبيب رزق فى مقدمة كتاب (فاروق الأول وعرش مصر) للدكتورة لطيفة محمد سالم يقرر – عن علم وتخصص – أن حياة فاروق وعهده يمثلان مرحلتين مختلفتين تمام الاختلاف.
المرحلة الأولى كان شعبيا ومحبوبا والمرحلة الثانية كان فاسدا بكل معانى الكلمة. بل إن الدكتور يونان – استنادا إلى شهادات المقربين من الملك فاروق وأهمهم حسن باشا يوسف وكيل الديوان الملكى فى الفترة من 1942 إلى 1952 – يقرر أن شخصية الملك فاروق كانت فى المرحلة الثانية من عهده شخصية (سيكوباتية).. وللعلم فإن هذا مرض عقلى يجعل المصاب به يتحول إلى السلوك الإجرامى، ويضيف الدكتور يونان إلى ذلك ما ذكره المتخصصون من أن فاروق فى هذه المرحلة كان مصابا بمرض نفسى آخر هو (انفصام الشخصية). هذا بينما كانت مصر تعانى ظروفا سياسية واقتصادية بالغة القسوة فى أعقاب الحرب الثانية (1945 – 1952) وكانت فى حاجة إلى قيادة واعية وحكيمة وليس إلى ملك مستغرق فى اللهو ومحاط ببطانة السوء التى تزين له كل ألوان الانحراف السياسى والأخلاقى.
والدكتورة لطيفة محمد سالم أستاذة التاريخ الحديث من أكثر المؤرخين إلماما بحياة الملك فاروق ولها أعمال موسوعية عن عصره، وقد أعدت كتابها عن فاروق اعتمادا على الوثائق البريطانية والمصرية وشهادات المقربين والمعاصرين لفترة حكم فاروق، وخرجت بنتيجة أنه كان هناك فاروقان وليس فاروقا واحدا. الأول حكم فى الفترة من 1938 حتى 1944 ثم حدث انقلاب فى شخصيته بعد إقالته لحكومة الوفد فى أكتوبر 1944 وأصبح فاروقا آخر تسبب بنزواته السياسية والشخصية فى تخلف مصر عن مسيرة التحديث التى انطلقت إليها معظم الدول وسبقتنا .
وقد عرض المسلسل بتفصيل المرحلة الأولى واستغرقت معظم الحلقات. أما المرحلة الثانية – وهى الأهم – فاكتفى بإشارات سريعة قد تفوت على المشاهد، وأظهر انحرافات الملك وكأنها كانت مجرد هفوات أو نزوات وليست تلاعبا بمصائر الشعب واعتداء على حقوقه. وقدم المسلسل البطانة الفاسدة المحيطة بالملك وكأنها مجموعة من الظرفاء والأرجوزات لتسليته فى أوقات الضيق، ولم يبين المسلسل كيف كانت هذه الأرجوزات تؤثر فى سياسات ومواقف الملك السياسية والأخلاقية. وإن كان المسلسل قد ركز على دور أحمد حسنين باشا وكأنه هو وحده كان له تأثير كبير عليه بينما كانت بطانة السوء لا تقل تأثيرا خصوصا بعد وفاة أحمد حسنين وإنفرادهم بالملك الذى عانى من انحرافات أسرته – بالإضافة إلى انحرافه هو أيضا – ويعانى من الضغوط الشعبية متمثلة فى حزب الوفد، ويعانى من الفضائح التى ارتكبتها أمه وبعض شقيقاته فى أمريكا وكانت الصحف الأمريكية والأوربية تنشرها كما تنشر فضائحه فى رحلاته إلى أوربا .
ولم يقدم المسلسل صورة للحياة الاجتماعية فى مصر فى ذلك العهد، وحالة الفقر والحرمان والملايين التى لا تأكل اللحم إلا فى العيد ولا يأكلون الفاكهة إلا نادرا، ولا يعلمون أبناءهم لأنهم لا يقدرون على دفع مصاريف التعليم، وهكذا كان الثالوث الذى يتردد فى الخطب الرسمية والمقالات هو: الفقر والجهل والمرض، وكان أكبر مشروع قومى هو مشروع مكافحة الحفاء لأن الملايين كانت لا تملك ما تضعه فى أقدامها، وكان أكبر حلم شارك فيه الشعب هو مشروع القرش الذى تبرع فيه المصريون بقروشهم لبناء مصنع لصناعة الطرابيش على أنه تحقيق للنهضة الصناعية للبلاد! لم يصور المسلسل العمال والفلاحين وصغار الموظفين فى معاناتهم كما صورها الأدباء والشعراء ولعلنا نذكر رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوى وأشعار بيرم التونسى والشرنوبى وكتابات الدكتور محمد مندور وغيرهم وغيرهم.
ولم نشاهد فى المسلسل حالة البؤس الذى كان يعيش فيها ملايين المصريين وشاهدنا القاهرة نظيفة والناس تسير بملابس لامعة وطرابيش جديدة وكأنها باريس! والحقيقة أن القاهرة كانت مليئة بالحمير وعربات الكارو وسوارس وبالمتسولين والمشردين والبلطجية.
تقول الدكتورة لطيفة محمد سالم: إن المرحلة الثانية لفاروق (1944 – 1952 ) شهدت أفول التوهج الذى لازمه، وانفصل عنه الشعب الذى كان يعانى من سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتحول فاروق إلى ديكتاتور يعادى حزب الأغلبية ويعين حكومات ليست لها قاعدة شعبية لتكون منفذة لرغباته ويكون هو وحده الآمر الناهى ويمارس من خلالها أوتوقراطية مستفزة، واستسلمت له أحزاب الأقلية (الأحرار الدستوريين، والهيئة السعدية، والكتلة، والحزب الوطنى) وسايرته – بل وشجعته – على استبداده واستهانته بحقوق الشعب وبالدستور.
ولم يصور المسلسل حالة القلق الاجتماعى ونشأة الحركات السياسية بسبب الحرمان والفقر واستهانة أغنياء الحرب والإقطاعيين بمعاناة الملايين، ولم يعرض لمظاهرات الطلبة ضد فاروق وكيف أيد ما فعلته حكومة النقراشى بفتح كوبرى قصر النيل ليسقط عشرات من الطلبة المتظاهرين فى النيل ويكافئ الحكومة على ذلك بمنح نيشان محمد على لرئيس الوزراء، ومنح الباشوية للوزراء الذين لا يحملونها. ولم يذكر المسلسل تجاهل فاروق لمعاناة الشعب وإقامته الاحتفالات التى ينفق عليها من أموال الشعب مما كان يمثل استفزازا لمشاعر الناس.
ولكى يعرف الجيل الجديد الحقيقة لابد أن نكمل الحديث عما سجله التاريخ عن هذا العهد البائد.