عندما يتكلم الفقراء
 ربع سكان مصر فقراء، والفقراء بشر.. لديهم مشاكل فى حياتهم.. ولكى يعيشوا لهم مطالب.. وهم صامتون ومستسلمون فى الظاهر وفى داخلهم غضب وقلق.. يريدون فرصة ليتكلموا بصوت عال ويجدوا من يستمع إليهم، ولكن ليس لهم مكان فى مجلس الوزراء، ولا فى مجلسى الشعب والشورى، ولا فى الأحزاب، ولا فى صالونات المفكرين وواضعى السياسات.. والآن وقد صدر التوجيه الرئاسى إلى الحكومة بأن تجعل قضية الفقر والفقراء.. على رأس أولوياتها، فإن البداية الصحيحة ألا تنفرد الحكومة بوضع السياسات واتخاذ القرارات ـ التى تمس حياة الفقراء ـ فى الغرف المغلقة والمكيفة الهواء المعزولة عن ضجيج الشارع والمعقمة ولا تصل إليها رائحة الفقراء ويكفى أن يقرأ أعضاء الحكومة هذا البحث الذى يتكلم فيه الفقراء، لكى يعرفوا كيف يعيش الفقراء وكيف يفكرون. والحكمة تقول (تكلم حتى أعرفك).
البحث أجراه المركز القومى للبحوث الاجتماعية وأشرف عليه الدكتور أسامة عبد البارى أستاذ علم الاجتماع، وهو عبارة عن دراسة ميدانية على عينة من الفقراء المستفيدين من معاش الضمان الاجتماعى (أى أنهم ليسوا معدمين) نصفهم تقريبا يتراوح دخلهم الشهرى بين 100 و 200 جنيه، و31% منهم ليس لهم دخل ثابت لأنهم يعملون (حسب التساهيل). معظمهم يتراوح عمره بين 51 و 60 سنة، متزوجون ولديهم أبناء، أميون يسكنون هم وزوجاتهم وأبناؤهم فى غرفة واحدة (!) ويمكن استخلاص نتائج البحث باختصار كما يلى:
**هل هناك علاقة بين الفقر وزيادة عدد الأبناء؟
الإجابة: نعم. قال 51% من أفراد العينة إن أعداد أسرهم بين 5 و8 أفراد، والباقى قالوا إن بعض الأبناء يزاولون أعمالا هامشية تدر دخلا يساعد على المعيشة ولذلك فهم محتاجون إلى زيادة عدد الأبناء.
**هل تعيش فى مسكن مناسب؟
الإجابة: لا. قال 65% من أفراد العينة إن الأسرة تتكدس فى مسكن ضيق، وكانت ضمن الإجابات قول أحدهم: (أنا وعيالى عايشين فى مكان زى علبة الكبريت) وقال آخر: (فيه ناس مش لاقية عشة تنام فيها).
**هل لديك راديو وتليفزيون؟
الإجابة: قال 45% إنهم لا يملكون راديو أو تليفزيونا، وقال أحدهم: (بس نلاقى ناكل الأول). وقال آخر: (هو أنا لاقى أأكل العيال عشان أفرجهم على التليفزيون.. قول ياباسط). وقال ثالث: (هو احنا عندنا كهرباء أو مياه من الأصل). وقال 26% إنهم يملكون تليفزيونا وراديو ويحصلون عليهما بالتقسيط من أسواق بيع السلع المستعملة والمسروقة، من أجل (التفريج عن النفس) وقال أحدهم: (آهو حاجة تسلينا أنا والعيال، ولا يعنى ندفن نفسنا بالحياة). وقال 29% إنهم يشاهدون التليفزيون مع الجيران. وقال الجميع إنهم لا يقرأون الصحف. إما بسبب الأمية أو بسبب عدم القدرة على دفع ثمن الجريدة أو للشعور بأن قراءة الجريدة ليست من الضروريات.
**هل ضيق المسكن يتسبب فى انتشار الأمراض؟
الإجابة: قال 62% إن ضيق المسكن، وسوء التهوية، وعدم وجود دورة مياه مناسبة، وعدم وجود مياه نظيفة يسبب الأمراض. وقالوا إنهم يعانون من الحصول على العلاج. ولا يمكنهم التغلب على هذه المشكلة لعدم قدرتهم على تدبير تكاليف العلاج والدواء بعد أن أصبح الكشف فى مستشفيات الحكومة برسوم وكان مجانيا، والدواء الآن على حساب المريض لعدم وجود أدوية بالمستشفيات الحكومية. وليس فى إمكان كل مريض الحصول على قرار العلاج على نفقة الدولة.
**وهل يتسبب ضيق المسكن فى مشكلات أخلاقية؟
الإجابة: 47% قالوا إن ضيق المسكن وتداخل مساكن الفقراء من أسباب التوتر داخل الأسرة، ومع الجيران، ولذلك تكثر المشاحنات بين أسر الفقراء نتيجة لافتقاد الخصوصية. والمشكلات الأخلاقية التى تنشأ بين الجيران تتطور أحيانا فتصل إلى أقسام الشرطة أو تصل إلى استخدام الأسلحة الحادة. ويؤدى ضيق المسكن إلى انتشار السلوكيات المنحرفة بين الأبناء. ويشعر الكبار والصغار بالضيق، وتنشأ فى نفوسهم مشاعر الحقد الاجتماعى لعدم حصولهم على الاحتياجات الأساسية، مما يدفع بعضهم إلى السرقة والنشل والبلطجة..إلخ. ونفهم من ذلك أن العنف الظاهر والمستتر يرتبط بالفقر. ويدلنا البحث على أن العنف (كامن) فى نفوس الجميع. ينفجر فى أوقات ومناسبات مختلفة.
أقوال أفراد العينة تلقى الضوء على الحقائق التى يجب ألا نتجاهلها أو أن ننكرها أو نستنكرها. من هذه الأقوال التى سجلها الباحثون: (أشعر أنى أقل من باقى خلق الله).. (لا مانع عندى من أن أفعل أى شىء مادمت لا أجد المساعدة من المقتدرين).. (أتمنى زوال النعمة عن الأغنياء المقتدرين لأنهم لا يعطونى حقى وينظرون إلى باستعلاء).. (تعمل زوجتى وبناتى للمساعدة فى المعيشة).
يعلق الدكتور أسامة عبد البارى بأن النسبة الغالبة من الفقراء تربط بين قلة الدخل والشعور بالدونية الاجتماعية، بينما نسبة قليلة ترى أن الحكمة الإلهية جعلت الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء. وقال الجميع إنهم يقبلون أى عمل يوفر لهم لقمة العيش ولا يمانعون فى الخدمة فى البيوت.
**هل الفقر هو الدافع للجريمة؟
الإجابة: قال أغلبيتهم. نعم الفقر يدفع إلى الجريمة، وقال آخرون إن الفقر ليس مبررا لارتكاب الجريمة، وقال فريق ثالث إن المسألة تتوقف على الظروف وإمكان أو استحالة الحصول على ضروريات الحياة.
**هل يشعر الفقراء بالحقد الاجتماعى تجاه الأغنياء؟
الإجابة: قال 52% نعم.. وإنهم يتمنون زوال النعمة عن الأغنياء، لأن الأغنياء لديهم أكثر من احتياجاتهم والفقراء لا يجدون أبسط احتياجاتهم. وهذا يعكس الصراع الداخلى الذى يعانى منه الفقراء لشعورهم بأن الأغنياء لا يمدون إليهم يد المساعدة. ولا يشعرون بالمعاناة التى يواجهونها يوميا للحصول على لقمة العيش.
**هل تعمل زوجتك وأبناؤك للمساعدة فى تحمل أعباء المعيشة؟
الإجابة: قال 65% نعم، وقالوا: هل هناك حل آخر مع قلة الدخل وغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار؟ فالمسألة ليست اختيارا ولا يستطيع الفقير أن يرفض أى شىء يحصل منه على ما يساعده على مواصلة الحياة. أما 15% فقد قالوا لا. إما لأن الزوجة مريضة أو ضعيفة لا تقوى على العمل، أو لديها أطفال صغار ومضطرة للبقاء معهم فى البيت.
**هل تشارك فى الانتخابات؟ وهل تحب بلدك؟
الإجابة: قال البعض صراحة: أنا لا أحب البلد لأنها لا توفر لى احتياجاتى الضرورية. قال 77% أنا لا أشارك فى الانتخابات لأنى لا أفكر إلا فى لقمة العيش، ولأن بتوع الانتخابات لا يفكرون فينا، ويعملون لمصلحتهم فقط.
**هل أنت مستعد للتعامل مع أفكار هدامة؟
الإجابة: قال 48% مادام هناك ناس يلعبون بالفلوس وناس مش لاقية تاكل، فأنا أعمل أى حاجة (!) وقال 7% إنهم يذهبون إلى الانتخابات عندما يحصلون على مبلغ مالى من المرشح لإعطائه أصواتهم أو الاشتراك فى المسيرات والهتاف للمرشح وهم يعلمون أنه عندما ينجح لن يعمل شيئا لصالح الفقراء.
وهذا يعبر عن فقدان الثقة لدى الفقراء فى الوعود ولكنهم يسايرون ويظهرون أنهم يصدقون ما يقال لهم عن إصلاح أحوالهم بعد سنوات.
من الحقائق المهمة التى يضع البحث أيدينا عليها أن تحسين أوضاع الفقراء قضية أمن قومى، ولأن تزايد أعداد الفقراء وتردى أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية يؤدى إلى فقدانهم الشعور بالانتماء نتيجة لذلك، ويعلق الدكتور أسامة عبد البارى أستاذ علم الاجتماع بقوله: (من أين يأتى الانتماء مع الحرمان من الضروريات؟).. وقد قال 43% إنهم يشعرون بالانتماء للمجتمع.. ولكن هذا الانتماء لا يعكس الرضا عن واقع هذا المجتمع فى ظل رؤية الفقراء للعديد من التناقضات التى تثير مشاعر السخط والتمرد.
**هل تقبل الانضمام إلى جماعة تعمل على الإضرار بمصالح الدولة؟
الإجابة: 48% قالوا لا، و10% قالوا نعم. ويعلق الدكتور أسامة عبد البارى على ذلك بأن المشاعر السلبية الناتجة عن الفقر تتلاشى عند تعرض البلاد لأى خطر، ونسبة كبيرة من أفراد العينة أشاروا إلى أن الأعمال الإرهابية تضر بمصالح الفقراء أيضا، وتغلق أمامهم منافذ العمل، وهذا الشعور يعكس الطابع العاطفى للمصرى تجاه وطنه، فهو يعانى من الاحباط ويرى أن النظام السياسى هو المسئول عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، إلا أنه فى ذات الوقت لا يقبل المساس بأمن البلد تحت ضغط الفقر أو لأى سبب آخر.
وفى البحث حقائق كثيرة ومثيرة ربما نعود إليها، ولكن المهم أن يستقر فى يقين الحكومة أن الفقراء مواطنون لهم حقوق المواطنة، ومعيار نجاح الحكومة ليس فقط فى زيادة ثراء الأثرياء، ولكن فى تحسين أوضاع الفقراء أيضا، وكل حكومة لها صفحة فى تاريخ البلد. ونتمنى أن تكتب الحكومة فى صفحتها أنها نجحت فى تحقيق العدالة الاجتماعية، التى هى أهم ضمانات الأمن القومى والاستقرار الاجتماعى والسياسى.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف