حقـــوق الفقـــراء
أظن أن الرسالة التى بدأ بها الرئيس مبارك خطابه أمام مجلسى الشعب والشورى قد وصلت إلى الحكومة. كانت الرسالة فى غاية الوضوح وكان عنوانها (العدالة الاجتماعية) ولكى تكون الرسالة أكثر وضوحا ولا يلتف إليها أحد من مجاذيب أمريكا المؤمنين بتطبيق نظام السوق الحر بأكثر مما تطبقه أمريكا. لكى تكون الرسالة أطثر وضوحا ألقى الرئيس درسا على الجميع شرح فيه مفهومه للعدالة الاجتماعية، وهو مفهوم واسع لا يقتصر على تأمين الحد الأدنى من ضرورات الحياة للفقراء، ولكنه يمتد ليشمل العدالة فى الحقوق بين الرجل والمرأة من منطلق حقوق الإنسان، والعدالة فى توزيع ثمار التنمية بحيث لا تستأثر بها طبقة ويحرم منها ملايين المواطنين، والعدالة فى توزيع مشروعات الاستثمار فى أنحاء البلاد وبخاصة فى الصعيد وسيناء لتعويض الحرمان الطويل الذى كان مفروضا على المواطنين فيهما لعدة عقود.
جاءت رسالة مبارك قوية، واضحة، وفيها نبرة التحذير أيضا. لأن الحكومة بدأت بفلسفة لا تعترف بالعدالة الاجتماعية، وركزت كل همها على تقديم الامتيازات والتسهيلات للمستثمرين ورجال الأعمال. وكان ذلك طبيعيا، فهى وزارة من رجال الأعمال الذين يؤمنون بأن الفقراء لا يضيفون إلى الدخل القومى، ولا يساهمون فى زيادة التصدير، ولا يشاركون فى تنمية الساحل الشمالى والتجمع الخامس والقطامية هايتس وغيرها من المنتجعات الصيفية والشتوية. الفقراء فى هذه الفلسفة مستهلكون، ينتقصون من موارد الدولة بالدعم والمعونات ومجانية العلاج والتعليم، بينما المستثمرون يقيمون المصانع والقصور والفيلات ويعملون على تنشيط السوق وإنعاش حركة البيع والشراء والسمسرة وخلافه.
فى خطاب الرئيس نبرة تعنى التحول من تلك الفلسفة التى أدت إلى زيادة فقر الفقراء، وزيادة الإحباط إلى حد المخاطرة بقبول الموت غرقا بحثا عن فرصة عمل فى بلاد الغربة بعد أن أصبح الحصول على هذه الفرصة مقصورا على ابناء أصحاب النفوذ وبالواسطة. فى الخطاب نبرة التحول إلى طريق جديد عنوانه (الأولوية لحقوق الفقراء، ولا يمنع ذلك من الاستمرار فى تشجيع المستثمرين ورجال الأعمال إذا كانوا يعملون على إقامة مشروعات إنتاجية تضيف إضافة حقيقية إلى الناتج القومى وتفتح أمام الشباب فرص عمل منتج، وتسهم فى تطوير التكنولوجيا المتخلفة فى الصناعة المصرية. وقد نبه علماء الاجتماع فى مصر إلى أن التساقط إلى ما تحت خط الفقر هو تساقط بالجملة، ونتيجة ارتفاع الأسعار، وعدم القدرة على الحصول على مسكن، والبطالة سيف على رؤوس الجميع، ويقول علماء الاجتماع عن هذه الفئات من المهمشين بأنهم الجماعات المعرضة للخطر مثل الوقوع فى شرك الجريمة والإرهاب والهجرة غير الشرعية التى تؤدى بهم إلى الموت غرقا أو إلى السجن، ويقولون أيضا إنها الجماعات الهشة الضعيفة.
ومعروف أن سياسات الحكومات المتعاقبة أدت إلى تزايد الفقر، وهى السياسات التى أطلق عليها (التكيف الهيكلى) والتى بدأت فى الربع الأخير من القرن العشرين، وتمثلت هذه السياسات فى انسحاب الدولة من مجالات الإنتاج، وبيع المرافق العامة المملوكة للدولة إلى القطاع الخاص، وخفض النفقات الحكومية المخصصة للخدمات كالتعليم، والصحة، والإسكان، والغذاء، وسلامة البيئة، وتوقف الحكومة عن تعيين الخريجين الذين يبلغ عددهم سنويا أكثر من نصف مليون شاب وشابة. وزادت الأمور مع تطبيق سياسة التحرير الاقتصادى التى امتدت آثارها السلبية إلى قطاعات الزراعة والتعليم والصناعة والصحة والخدمات الاجتماعية ورعاية الأطفال والمسنين. هذه السياسات أدت إلى ارتفاع الأسعار، وتناقص نصيب الفرد من الدعم على الرغم من زيادة اجمالى الدعم.
تقول الدكتورة سامية قدرى الأستاذ بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية إن الذين استفادوا من إلغاء التسعيرة الجبرية، وبيع القطاع العام، وإطلاق حرية السوق، هم قلة معظمهم من رجال الأعمال بينما الأغلبية العظمى من المواطنين كانوا من المتضررين. خاصة فى فترة التسعينات بعد أن ارتفعت أسعار نفقات المعيشة إلى أعلى متوسط للزيادة، وانخفض نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى. وهذا ما أكده تقرير التنمية البشرية الذى أعده معهد التخطيط القومى لعام 1994. وقال فيه إن مصر فى عام 1993 كانت الدولة رقم 124 من بين 173 دولة فى التنمية البشرية، وإن 25% من السكان يعيشون على دخل شهرى تحت خط الفقر. ولا نغفل أثر الظروف العالمية على الحالة فى مصر، ولا نغفل آثار العولمة منذ التسعينات فى القرن العشرين، والعولمة كانت تدعى أنها حامى حمى حقوق الإنسان وحقوق الفئات الهشة ولكن الممارسة الفعلية كانت عكس ذلك.. مع خطاب العولمة عن حقوق المرأة فإن المرأة أصبحت تعانى من الفقر أكثر من الرجل، ومع حديث العولمة عن القضاء على ظاهرة عمالة الأطفال تزايد عدد الأطفال الذين يضطرون للعمل تحت ضغط الحاجة إلى الطعام حتى وصل عددهم 250 مليون طفل على مستوى العالم، ومع ادعاء العولمة بأنها تعمل على تحسين أحوال الناس فإنها أدت إلى مزيد من الفقر والبطالة والتفكك والضعف والتهميش.
وتقول الدكتورة سامية فى بحثها إن الفقراء يتعرضون أكثر من غيرهم إلى المرض والتشرد والعزلة الاجتماعية والسياسية، والحرمان من التعليم. لذلك ركز الرئيس على مبدأ (المواطنة) وربط بينه وبين (العدالة الاجتماعية) لأنهما وجهان لعملة واحدة لضمان مساواة المواطنين جميعا أمام القانون، وفى الحقوق والواجبات، وفى النصيب العادل من الثروة الوطنية والمشاركة السياسية دون تفرقة بين الفقراء والأغنياء، أو بين أبناء الوجه البحرى وأبناء الصعيد أو بين المسلمين والأقباط، أو بين الرجل والمرأة وبذلك تكون المواطنة هى المساواة بين المواطنين، ولا يكون هناك مواطن من الدرجة الأولى ومواطن من الدرجة الثانية أو الثالثة. كما يرتبط مفهوم المواطنة بمفهوم الحقوق، بمعنى أن يحصل كل مواطن على احتياجاته الأساسية التى تكفل له حياة إنسانية معقولة. وهذا ما يتفق مع العهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذى صدر عام 1966 وصدقت عليه مصر.
لدينا مشكلة عمالة الأطفال، وفى دراسة للمجلس القومى للطفولة أن هناك 2 مليون و 76 ألف طفل يعملون يمثلون 21% أى خُمس الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و14 سنة. وتؤكد الدراسة أن الظاهرة فى ازدياد وليس فى تراجع. ونسبة عمالة الأطفال فى الريف 64% من الأطفال العاملين. وفى تقرير عن نتائج المسح القومى لظاهرة عمالة الأطفال الذى صدر عام 2006 أن عمل الأطفال الذكور أكثر انتشارا فى المدن على عكس الريف فترتفع نسبة الإناث. وفى النهاية فإن عمالة الأطفال هى نتيجة للفقر أولا وأخيرا.
ماذا تقدم الحكومة للفقراء؟
هناك هيئات كثيرة لمساعدة الفقراء وتأثيرها محدود وثلاث جهات فقط التى تقدم لهم مساعدات ملموسة هى: وزارة التضامن الاجتماعى، والصندوق الاجتماعى، وبرنامج تنمية القرية (شروق) ومساعدات هذه الجهات الثلاث تذهب إلى بعض الفقراء ولا تذهب إلى كل الفقراء، وهناك معوقات وسلبيات فى عمل هذه الجهات بسبب السياسة التى اتبعتها الحكومة فى فترة من الفترات بالانسحاب من الإنفاق على مجالات الرعاية الاجتماعية والتخلى عن رعاية بعض الفئات مثل كبار السن، وذوى الاحتياجات الخاصة، وإن كانت قد بدأت منذ سنوات حركة لمساعدة هذه الفئات.
تقول الدكتورة سامية قدرى إن هناك فئات هى الأكثر فقرا والأكثر احتياجا للمساعدة مثل أطفال الشوارع، واللقطاء، واليتامى، والنساء اللاتى يتحملن مسئولية إعالة الأسرة، وكبار السن، والمعاقين، وهذه الفئات محرومة من التعليم، والرعاية الصحية، والضمان الاجتماعى.
الفقراء لهم الحق فى الحياة.
هذه هى الرسالة الأولى التى وجهها الرئيس مبارك إلى الحكومة، ولم يوجهها إلى الحكومة وحدها ولكن وجهها أيضا إلى الجمعيات والهيئات الأهلية وإلى الأغنياء والقادرين، وإلى كل المصريين.. فهى مسئولية جماعية بل هى واجب دينى وسوف يحاسب الله كل إنسان قادر على مساعدة الفقراء ولا يساعدهم، وهى بعد ذلك مسئولية اجتماعية وسياسية، وهى الضمان الأكبر للاستقرار والأمن، ولذلك يجب ألا تترك لمفهوم الإحسان والتطوع ولابد من استراتيجية لضمان حماية الفقراء وتوفر لهم الأمن على لقمة العيش وأربعة جدران تحميهم والحد الأدنى من العلاج وتعليم أبنائهم.
لا أحد ينكر الجهود التى تبذل.. ولكن هذه الجهود تحتاج إلى دعم إضافى.. ولكى ندرك ذلك اقرأوا خطاب الرئيس مبارك مرة أخرى.