مصطفى محمود.. أديب أم فيلسوف؟!
عندما كنت طالباً أدرس الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس فى جامعة الإسكندرية كنت حريصاً على متابعة كتابات د. مصطفى محمود وأجد فيها عمقا لا أجده فى كتابات أخرى.. كنت أتابع التحولات فى فكره من الشك إلى اليقين، ومن اليسار إلى اليمين، ومن الماركسية إلى الوجودية.. فهو مفكر من نوع خاص جداً.. هو باحث عن الحقيقة كل الوقت، يقلب وجهه فى كل اتجاه، ولا يعرف الجمود.. هو ضد التعصب بكل صوره.. وضد الإدعاء والمدعين.. صادق مع نفسه ومع الآخرين. .
وعندما توثقت علاقتنا فى عام 1994 عندما عينت رئيساً لدار المعارف، وتعددت لقاءاتنا باعتباره من أهم كتّاب الدار، وله أكثر من أربعين كتاباً من إصدارات دار المعارف، عندئذ لمست فيه روحا محلقة فى السماء.. فهو مع الله فى كل لحظة.. أصبح صوفيا.. ليس منضما إلى طريقة من الطرق الصوفية، ولا يدين بالولاء والخضوع لشيخ الطريقة ليكون مثل أبناء الطرق الصوفية (كالميت بين يدى مغسله).. صوفى لا ينصرف عما حوله من الناس والأحداث ولا يهرب من المجتمع.. ووهب نفسه لخدمة الناس، وخدمة الفقراء والمرضى بصفة خاصة، وأعتقد أنه سينعم فى الجنة جزاء لما قدمه لكل المحتاجين الذين كانوا يلجأون إليه ويجدون عنده المساعدة دون مّن أو أذى. qqq ومنذ أيام أصدرت دار المعارف كتاباً جديداً عن د.مصطفى محمود فى سلسلة اقرأ من تأليف محمد رضوان فيه جهد كبير لتسجيل مراحل حياته وتطور أفكاره، وثقافته، وتحليل لإنتاجه الأدبى وهو كثير من قصة ومسرحية ومقال، وفيه استعراض لرحلته الشاقة التى وصلت به إلى بر الأمان واستقر بعدها عند اليقين، وفيه أيضاً الجانب الإنسانى من هذا المفكر النادر، وأخيراً فيه حديث شيق عنه باعتباره (فارس العلم والإيمان). ويسجل محمد رضوان فى النهاية آراء عدد من كبار الكُتاب فى د.مصطفى محمود، مثل الناقد الكبير الراحل رجاء النقاش الذى لاحظ أن د.مصطفى محمود ظل يعانى من الصراع فى داخله بين المفكر والفنان وانتهى هذا الصراع لصالح المفكر لا مصلحة الفنان، وغلبت على إنتاجه صفات المناقشة والتحليل والتجريد، وكمثال فإن مسرحيته (الشيطان يسكن فى بيتنا) هى عمل فكرى خالص، تبدأ بالمناقشة وتنتهى بالمناقشة، ويعتبر رجاء النقاش أن هذا هو العيب الأكبر فى المسرحية، وهو الميزة الكبرى لها فى نفس الوقت. فالراقصة «سونيا» تقتحم حياة الشيخ المتصوف «إبراهيم طنطاوى» الذى كان يعتكف فى معبده بالصحراء، وتحاول أن تجره من عالمه إلى عالمها الدنيوى الصاخب، وتنجح فى تحقيق هدفها عندما تقنعه بأن «الاعتكاف» نوع من «السلبية» ولا يؤدى إلى النجاة، لأن النجاة هى نجاة «الكل» وليست نجاة «الفرد» ولأن الطهارة والبراءة الشخصية مستحيلة فى عالم ملوث مريض، ويقتنع الشيخ ويخرج من اعتكافه إلى الحياة ويرتبط بالراقصة ويصبح مديراً لأعمالها، وفى النهاية يكتشف أنها تتآمر عليه وعلى أتباعه، ويمكن أن تدمره وتغرقه فى الانحلال، وهنا ينتبه الشيخ ويعود إلى الطريق الذى انحرف عنه.. يلاحظ رجاء النقاش أن الفكرة نجدها فى رواية «تاييس» لأناتول فرانس، و«فاوست» لجوته، و«الرباط المقدس» لتوفيق الحكيم، فهى قصة الغانية التى تريد أن تهتدى عن طريق الراهب أو الشيخ، ولكن يحدث العكس وينحرف الراهب أو الشيخ على يدها، يصل رجاء النقاش إلى أن د. مصطفى محمود صاغ فكرة سياسية وراء هذه الأحداث، ويرى أنه كان يقصد أن «سونيا» هى الحضارة الغربية المليئة بالمغريات والزيف والتى تسعى إلى السيطرة على الشعوب بهذه المغريات من الانحلال والتمرد والإباحية، وفى هذه الحالة فإن «الشيخ طنطاوى» يرمز إلى العالم العربى، كما اكتشف الشيخ «الخديعة» فإن على العالم العربى أن يكتشفها ويعود إلى القيم الحضارية العربية لكى لا تذوب الشخصية العربية وتصبح مسخاً لا هى عربية ولا هى غربية. على الجانب الآخر نجد الأديب الكبير الراحل ثروت أباظة يشيد باتجاه د. مصطفى محمود بالربط بين العلم والإيمان، بينما كانت أستاذة الأدب والنقد العظيمة د.سهير القلماوى تلميذة طه حسين ترى أن على د.مصطفى أن يعود إلى القصة العلمية.. ورأى ثروت أباظة أن د. مصطفى طبيب فى دراسته، فنان فى هواياته، صوفى فى عقيدته، ولهذا أحبه الشباب، ولكن د. سهير ظلت على رأيها فى أن د. مصطفى تاه وابتعد عن عن عالمه الحقيقى الذى يجيد التعبير عنه كمؤلف قصصى، وثروت أباظة على إصراره بأن د.مصطفى محمود لا يهاجم العلم بالإيمان، ولا يهاجم الإيمان بالعلم، ولا يجد تناقضا بينهما، ويكتب ويتحدث ليبين للناس قدرة الله من خلال العلم. والناقد الكبير الراحل كمال النجمى كان يرصد تحول د. مصطفى محمود من الكتابة عن الحب والحياة ويجذب الشباب بكتاباته المثيرة، فيصبح متصوفا وزاهدا له فيوضات خاصة، وفى كتابه «الطريق إلى مكة» اكتملت له سعادة التصوف والزهد فى رحلة الحج، لأن د.مصطفى كما تؤكد كتاباته ومواقفه فى الفكر والحياة يمتاز بالأمانة مع نفسه ولا يكتب إلا الأفكار الحقيقية، ويرفض أن يردد الأفكار الغوغائية الرائجة، وهذا هو الرقى أن أفكاره فى يوم تختلف عن أفكاره فى يوم آخر، وهو فى كل الأحوال لا يهمه إلا أن يعبر عن نفسه بصدق فى كل حاله. فى وقت من الأوقات قرر أن يهرب من صخب القاهرة ليعيش فترة فى غابات أفريقيا وأراد بذلك «الشفاء من داء المدينة» على حد قوله، لأن كل المدن لزجة خانقة، وهناك يحاول أن يفهم حقائق الحياة وحقائق الأرض والسماء، ويريد أن يهجر الزيف والنفاق والبهرجة الكاذبة فى المدينة وناسها إلى حياة الفطرة والنقاء فى الطبيعة العذراء هناك.. وبالتأمل الهادئ والحوار مع النفس بعيدا عن ضجيج المدينة ليرى أن «الحقيقة» لا يكون البحث عنها فى الظواهر، ولكن فيما وراء الظواهر، فالمادة تبدو صلبة وهى فى الحقيقة فى حركة دائمة كما اكتشف ذلك نيوتن، فهل هذه الحركة فى المادة هى «الروح»؟ وهل يعنى ذلك أن العالم هو روح كبيرة، ونحن فيه موجودات إلى زوال ولا يبقى فى النهاية إلا الأرواح وخالقها سبحانه وتعالى.. وفى كتابه «لغز الحياة» يكتشف أن المادة هى الحقيقة «روح».. بدأت الحياة بالخلية الواحدة، وحتى فى هذه الخلية نجد «الروح» التى تجعلها حية وقابلة للتطور. qqq وفى كتابه الشهير «مصطفى محمود شاهد على العصر» الذى أصدرته دار المعارف منذ سنوات يدلنا الناقد جلال العشرى على أن د. مصطفى محمود «فيلسوف» لأنه قضى سنوات طويلة فى البحث ليصل إلى معرفة الله والإنسان والعالم، ومنهجه فى التفكير هو «المنهج الجدلى» يرى الفكرة ونقيضها، ويرى ما ينتج عنها من فكرة ثالثة، وهو يرى العالم فى تكامله ووحدته، فهو ليس العالم المفكك الذى يراه الناس بعيونهم، ولكنه عالم متماسك ومتناسق وكل جزء فيه مرتبط بسائر الأجزاء الأخرى، العالم واحد ووحدة لأن خالقه ومدبره واحد.. ورحلته الفكرية قريبة الشبه برحلة الإمام أبو حامد الغزالى التى سجلها فى كتابه «المنقذ من الضلال» ود. مصطفى محمود فى سنواته الأخيرة يعارض المذاهب الفلسفية السائدة فى مصر ابتداء من الماركسية والوجودية إلى الوضعية المنطقية.. وهو يهاجم كل الفلسفات المادية ويرى أنها ترى نصف الحقيقة وتتجاهل النصف الآخر.. وهذا ما جعله يحاول فى كتابه عن تفسير القرآن تفسيرا عصريا فى ضوء قوانين العلم الحديث، ويتعرض لهجوم شديد ممن وجدوا فيه جرأة لم يتعودوا عليها، ولم تكن هذه هى المرة الوحيدة التى يوجه البعض إليه اتهامات قاسية فقد واجه الكثير من الهجوم على كتبه «رأيت الله» و«علم نفس قرآنى» و«رحلتى من الشك إلى اليقين» و«محمد والسر الأعظم» وكان أكبر هجوم على كتابه «الشفاعة».. وهذا حديث آخر.. المهم أن د. مصطفى محمود قامة فكرية وأدبية عالية.. من واجب كل من يختلف معه أن يحترم فكره لأنه فكر أصيل نابع من رغبة صادقة فى معرفة الحقيقة، وإيمان كبير بحرية التفكير وأن الإنسان بدون فكر وبدون حرية لن يكون إنساناً.