زعيم لكل العصور
مرت علينا ذكرى رحيل محمد فريد الزعيم الوطنى خالد الذكر، والنموذج النادر للزعامة الوطنية التى تضحى بكل ما تملك من الثروة، والحياة الهادئة، واستقرار الأسرة، ثم التضحية بالصحة وأخيراً التضحية بالحياة من أجل الوطن دون انتظار للجزاء، فكان جزاؤه الخلود فى ضمير الأمة على الرغم مما يبدو على السطح من نسيان.
وقد فقدنا على منصور المحامى والسياسى الكبير ورئيس اللجنة التشريعية بمجلس الشورى الأسبق الذى كان حريصا على أن يكتب مقالا ينشره فى أكثر من صحيفة فى هذه المناسبة لإحياء ذكرى محمد فريد، وكان بذلك هو الآخر مثالا للوفاء وعرفان الفضل لأصحابه، وكان يردد دائما أن محمد فريد زعيم لكل العصور تجاوز عصره وزمانه، بل تجاوز وطنه ليصير زعيما من زعماء الوطنية والحرية فى التاريخ الإنسانى.
محمد فريد هو الذى يجسد القيم النبيلة التى أصبحت نادرة فى زمن العولمة والبرجماتية وتحول كل القيم إلى سلع فى سوق البزنس.. فقد عاش ومات قابضا على الجمر، مؤمنا بحق بلاده وشعبها فى الحرية والتقدم.
عندما قدمت الحكومة الشيخ على يوسف صاحب ومحرر صحيفة المؤيد - للمحاكمة لنشره خبرا فى عدد المؤيد يوم 28 يوليو 1896 تحت عنوان «أحوال الجيش المصرى على الحدود» تضمن نص برقية سرية من اللورد كتشنر سردار الجيش المصرى فى ذلك الوقت إلى وزير الحربية عن انتشار الكوليرا بين الجنود فى المعسكرات، وقدم للمحاكمة أيضاً موظف مكتب التلغراف فى الأزبكية - توفيق أفندى كيرلس - وفى هذه القضية كان محمد فريد هو وكيل نيابة الاستئناف والمفروض أن يتشدد فى توجيه الاتهامات وأن يطالب بأقصى العقوبة على المتهمين، ويسوق الأدلة على الأضرار التى سببها نشر هذه البرقية.. ولكنه على العكس من ذلك وقف فى مرافعته متعاطفا مع المتهمين، مقدرا لحقهما فى نشر الحقائق، وموجها النقد لإجراءات المحاكمة ولسلطات الاحتلال وللحكومة التى تسير فى ركابها، ولم تجد المحكمة أمامها إلا أن تصدر حكمها ببراءة المتهمين، ولكن محمد فريد دفع ثمن هذا الموقف، فقد أصدر وزير الحقانية قرارا بنقله إلى إحدى مديريات الصعيد، واعتبر محمد فريد هذا النقل عقوبة لا يستحقها فقدم استقالته معلنا عدم استعداده للتخلى عن القيم والمبادئ الوطنية والأخلاقية التى يؤمن بها.
كان محمد فريد من أبناء الطبقة الثرية التى تملك المال والأطيان، وقد أنفق كل ما يملك فى نشاطه الوطنى الذى أشعل الحركة الوطنية ضد الاحتلال، حتى لم يعد يملك شيئا، وعبر عن ذلك أمير الشعراء أحمد شوقى فى قصيدة لرثائه بعد الرحيل قال فيها:
فريد ضحايانا كثير وإنما
مجال الضحايا أنت فيه فريد
إلا فى سبيل الله والحق طارف
من المال لم تبخل به وتليد
وجودك بعد المال بالنفس صابرا
إذا جزع الجميع فهو يجود
ولكن محمد فريد نفسه لم يكن يشعر أنه فريد فى تضحياته ووطنيته ولم يكن يتباهى بما يلاقيه من مطاردة حكومة الخديوى وسلطات الاحتلال، وظل يرفع الصوت فى التجمعات وفى لقاءات الحزب الوطنى إلى جانب الزعيم مصطفى كامل ويردد: «إننا نعرف كيف نصبر على المكاره، ولكننا لا نعرف التسليم فى حقوقنا ولا التنازل عن مطالبنا». ومن مواقفه أن حُكم عليه فى 23 يناير 1911 بالحبس ستة أشهر لكتابته مقدمة لديوان «وطنيتى» للشيخ على الغاياتى تحدث فيها عن تأثير الشعر فى تربية الأمم، وبعد صدور الحكم دخل السجن راضيا، ولكن السلطة شعرت بأن سجنه - وهو الزعيم الشعبى وأنصاره كثيروه - قد يسبب لها المشاكل، فصدر قرار بالعفو عن العقوبة على أن يكف عن إشعال الشعور الوطنى ضد الاحتلال وضد الحكومة العميلة الخاضعة للاحتلال، ولكنه رفض هذه الصفقة، وسجل المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعى هذه الواقعة فى كتابه «فريد رمز الإخلاص والتضحية» فقال إن كرلس باشا مدير مصلحة السجون زار محمد فريد فى سجنه وقال له: «إنى أسعى للعفو عنك إذا وعدت بتغيير خطتك» فأجابه محمد فريد:«إن ما تطلبه مستحيل» فعدل كيرلس باشا العرض قائلاً: «إنى لا أطلب منك تغيير مبادئك بل تخفيف لهجتك» فكرر محمد فريد الرفض، مما جعل كيرلس باشا يقول له:«أنت إذن تريد قضاء الستة شهور فى السجن» فأجابه فريد:«نعم، وأزيد عليها يوما إن أردتم». وبعد أسابيع زاره فى السجن الدكتور عثمان غالب موفدا من الخديوى ليعيد عليه العرض قائلاً له «إن الخديوى مستعد لإصدار الأمر بالعفو عنه إذا قدم طلبا إليه يلتمس فيه العفو» فكان رد محمد فريد: «أنا لا أطلب العفو، ولا أسمح لأحد من عائلتى بأن يطلب العفو عنى، وإذا صدر العفو فلن أقبله». وكتب إلى أسرته يحذرها من أن تقدم طلبا للعفو عنه. كما كتب إلى أحمد لطفى السيد (بك) الذى كان رئيسا لتحرير صحيفة «الجريدة» وكانت من الصحف التى تكتب كثيرا من المقالات التى تطالب بالعفو عن الزعيم الوطنى. وقال محمد فريد فى رسالته إلى لطفى السيد إنه يرفض الحرية التى تأتى بالاستجداء. وأمضى مدة العقوبة كاملة، وبعد يومين من خروجه ألقى خطابا فى المؤتمر الوطنى يوم 22 مارس 1912 قال فيه: «إنه لا دواء للحالة الحاضرة إلا الدستور» ونشر هذا الخطاب فى صحيفتى «العلم» و«اللواء» وقدمته النيابة للمحاكمة مرة أخرى بتهمة سوء القصد تجاه الحكومة، وشمل الاتهام معه مدير تحرير صحيفة العلم (إسماعيل حافظ) ومدير تحرير صحيفة اللواء (على فهمى كامل) وقالت النيابة فى عريضة الاتهام:
«إذا كان المتهم (محمد فريد) حسن القصد لحزبه (الحزب الوطنى) أو لأمته فإن ذلك لا يمنع أنه سيئ القصد لحكومته(!). وفى 25 مارس 1912 صدر الحكم عليه غيابيا بحبسه سنة مع الشغل والنفاذ.. وكان أصدقاؤه قد أرغموه على مغادرة البلاد قبل صدور الحكم بعد أن تأكدوا أن الحكومة قررت أن تدفعه إلى السجن كلما خرج منه. فسافر إلى ألمانيا، وظل فيها سبع سنوات يعانى من مرض صدرى، ومن عدم القدرة على توفير الدواء وتكاليف العلاج بعد أن نفدت أمواله واستحال على أنصاره أن يرسلوا إليه بعض الأموال لرفضه أن يتقبلها، وحين هزمه المرض والفقر - بعد أن كان صاحب جاه وثروة - قال لمن حوله: «لست أخاف الموت لأن الموت حق ولا بد منه ولكن كل ما كنت أتمناه أن أرى مصر قبل أن أموت وهى متمتعة بالاستقلال».
كانت قضيته تحرير الوطن من الاحتلال والاستبداد وإيقاظ المشاعر الوطنية للتخلص من القيود المفروضة على الشعب وعلى البلاد لكى تعوق تقدمها.
ولد محمد فريد سنة 1868 وكان أبوه أحمد فريد باشا ناظر الدائرة السنية، وكان أبوه يعده ليكون من أغنياء وكبراء البلد، فلم يكد ينال شهادة الحقوق حتى أصبح وكيلا للنيابة، واتصل سنة 1893 بالزعيم مصطفى كامل وشاركه فى بعث الحركة الوطنية، وأشرف على صحيفة «اللواء» وعلى صحيفتى «ليتندار اجيبسيان» بالفرنسية، و«ذى اجيبشيان استاندرد» بالإنجليزية وكانت منابر للهجوم على الاحتلال البريطانى، وأصبح نائبا لمصطفى كامل فى زعامة الحزب الوطنى، ولما توفى مصطفى كامل فى فبراير 1908 صار محمد فريد رئيسا للحزب الوطنى، فكانت رسالته مقاومة الاحتلال والخديوى والدعوة إلى التمسك بالدستور، وإلغاء قانون المطبوعات الذى يكبل حرية الصحافة ويحيل الجنح إلى محاكم الجنايات للمتهم فى قضايا الرأى والنشر.. ومع اضطهاد الاحتلال والحكومة له ظل يعقد المؤتمرات فى العواصم الأوروبية منددا بالاحتلال ومطالبا الدول والشعوب الأوروبية بالوقوف مع مصر للحصول على الاستقلال.. ضحى بالثروة، وبالمناصب، وبالألقاب، وتحمل الاضطهاد والسجن والنفى والتشريد ولم يتوقف عن المشاركة فى المؤتمرات الدولية رافعا شعار «مصر للمصريين».. وحين مات لم يكن لديه ما يكفى لتكاليف نقل جثمانه ليدفن فى وطنه وتكفل بذلك أحد أثرياء الشرقية!
ولو كانت وزارة التعليم حريصة على تعليم تلاميذها دروسا فى الوطنية لقررت كتابا يحكى مسيرة ونضال زعماء الوطنية المصرية مثل أحمد عرابى، ومحمد عبيد، ومحمود سامى البارودى، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول.. الخ.. ذلك إن كانت وزارة التعليم حريصة على تعليم الأجيال الجديدة معنى الحرية وتغرس فيهم روح الوطنية والتضحية من أجل الوطن.