يوم 6 اكتوبر في امريكا
ما يقوله كيسنجر يختلف عما يقوله أى مسئول أمريكى آخر.. كيسنجر هو مهندس الاستراتيجية الأمريكية منذ أواخر الستينات ولا يزال تأثيره على السياسة الأمريكية حتى اليوم، يسمونه الثعلب العجوز، وهو أستاذ فى العلوم السياسية والاستراتيجية فى جامعة هارفارد أكبر وأرقى الجامعات الأمريكية، وكان مستشار الأمن القومى ووزيرا للخارجية الأمريكية، وهو الوحيد الذى جمع المنصبين فى وقت واحد.. مؤلفاته موضع دراسة واهتمام فى الجامعات ومراكز الأبحاث وفى قصور الحكم فى الشرق والغرب.. ولذلك فإن ما قاله عن حرب أكتوبر 1973 له أهمية خاصة، فلا شك فى انحيازه لإسرائيل، ولا شك فى أنه استخدم دهاءه ومكره مع العرب لصالح إسرائيل، ولكنه فى النهاية لم يستطع أن يخفى بعض الحقائق التى لا يمكن إنكارها أو إخفاؤها، وأولها أن الجيش المصرى حقق انتصارا أذهل الإسرائيليين والأمريكيين فى حرب أكتوبر 1973.
وشهادة كيسنجر مسجلة بالصوت والصورة فى برنامج تليفزيونى شهير مع المحاور الأمريكى الشهير أيضا «لارى كينج» كما هى مسجلة بخط يده فى كتابه «الأزمة» الذى كتب على غلافه أنه تحليل لأكبر أزمتين سياسيتين واجهتها الولايات المتحدة، وكانت أكبر أزمة هى حرب 1973 التى خطط لها المصريون ونجحوا فى كسر إرادة إسرائيل، وقطع ذراعها العسكرية الذى كانت تدعى أنها قادرة على أن تضرب الضربة القاضية فى أى وقت وكل مكان.. والأهم أن حرب أكتوبر أثبتت فشل نظرية الأمن الإسرائيلية التى تدعى أن أمن إسرائيل يتحقق باحتلال المزيد من الأرض العربية، جاءت حرب أكتوبر لتثبت أن احتلال إسرائيل للأرض العربية هو الذى يجعل أمن إسرائيل موضع تهديد.. وأن أمن إسرائيل لا يمكن أن يتحقق إلا بالسلام مع جيرانها.. والسلام لا يمكن أن يتحقق إلا بإعادة الحقوق إلى أصحابها، لأن اغتصاب الأراضى وسياسة العدوان والإرهاب لن تحقق الأمن لإسرائيل فى الحاضر والمستقبل.
يقول كيسنجر إن رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير استدعت السفير الأمريكى «كينيث كيتنج»، وكان ذلك فى يوم عيد كيبور، وهو عيد مقدس عند اليهود مكرس للصلاة والتأمل ولا يمكن أن تجد يهوديا مشغولا بأى عمل آخر، وقالت للسفير: لقد جاء اليوم الذى تواجه فيه إسرائيل مصيرها، فقد تحركت القوات المصرية والسورية للحرب وكان تقدير إسرائيل والولايات المتحدة أن هذه التحركات مجرد تدريبات.. كان ذلك اللقاء فى وقت كان فيه كيسنجر نائما فى جناحه فى فندق ولدورف تاور فى مدينة نيويورك، حيث كان يشارك فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وصلت رسالة من السفير بمضمون استغاثة جولدا مائير فى الساعة السادسة والربع من صباح 6 أكتوبر بتوقيت نيويورك ولم ينتظر مساعد وزير الخارجية «جوزيف سيسكو» الذى تلقى الرسالة إلى أن يستيقظ كسينجر، فاقتحم عليه غرفة نومه، وأيقظه لإبلاغه بهذه الرسالة.. ويبدى كيسنجر دهشته لأن مصر وسوريا استطاعتا بمهارة إخفاء استعداداتهما للحرب، وكانت تقديرات أجهزة المخابرات الأمريكية أن مثل هذا الهجوم مستحيل تقريبا.. وقام كيسنجر فورا بالاتصال بالسفير السوفيتى فى واشنطن وطلب منه أن يتدخل لدى المصريين والسوريين لوقف العمليات، وقال كيسنجر للسفير السوفيتى: حتى أمس كانت لدينا تقارير بأن المصريين والسوريين يقومون بعمل استعدادات عسكرية وكان تقديرنا أن هذه عمليات «تهويش» أخرى من التى يقومون بها.. وبعد خمس دقائق قام كيسنجر بالاتصال بوزير الخارجية المصرى «محمد حسن الزيات» الذى كان موجودا فى نيويورك فاكتشف أن الزيات مثل السفير الروسى، لم تكن لدى أحد منهما فكرة مسبقة عن الضربة المباغتة التى قررت مصر وسوريا توجيهها لإسرائيل.. وقال كيسنجر للزيات إن حكومة إسرائيل طلبت منا إبلاغكم إذا كانت تحركاتكم تخوفا من هجوم إسرائيلى فإن إسرائيل ليس لديها نية للهجوم، ورد عليه الزيات قائلا: إننى مازلت متوجسا من أن هذه ذريعة يستخدمها الإسرائيليون.
وظل كيسنجر على التليفون.. اتصل بنائبه «سكوكروفت» وبالسفير السوفيتى مرة ثانية، ومع مساعد وزير الخارجية الأمريكى «الفريد اثيرتون» وتلقى رسالة ثانية من جولدا مائير ملخصها أن المصريين والسوريين إذا بدأوا بالهجوم فسوف يخسرون.. وعاود كيسنجر الاتصال بوزير الخارجية المصرى فقال الوزير: لم استطع الوصول للرئيس السادات لأنه الآن فى غرفة العمليات وقد تلقيت معلومات عن صدور البيان رقم واحد من مصر عن اشتباك عسكرى وقع فى الزعفرانة وعين السخنة.. وبعد دقائق تلقى كيسنجر مكالمة من موردخاى شاليف نائب رئيس البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية فى واشنطن حيث كان السفير الإسرائيلى فى إجازة فى إسرائيل لقضاء عطلة يوم كيبور أبلغ فيها كيسنجر أنه تلقى للتو مكالمة من إسرائيل تفيد أنه بينما كانت الحكومة الإسرائيلية مجتمعة وصلت أنباء عن قيام المصريين والسوريين بالبدء فى القصف الجوى للمواقع الإسرائيلية على طول الحدود، اتصل كيسنجر على الفور بكبير موظفى البيت الأبيض «الكسندرهيج» الذى كان برفقة الرئيس نيكسون وقال له: يبدو أن لدينا حربا تجرى فى الشرق الأوسط اليوم، وأنا بصدد إرسال تقرير للرئيس.. وسأل هيج: ما هو رأيك فى الموقف السوفيتى؟ فكان جواب كيسنجر: رأيى أنهم فوجئوا بالأمر وأنهم يحاولون الحفاظ على الموقف هادئا، وكرر هيج السؤال: هل تصدق ذلك؟.. فأجاب كيسنجر: نعم. فقال هيج: لدينا الكثير من المشاكل هنا - مشيرا إلى استقالة نائب الرئيس سبيرو أجنو - وأضاف كيسنجر: اعتقد أن موقفنا الداخلى ساعد على حدوث ذلك، مشيرا إلى فضيحة ووترجيت التى أدت إلى الإطاحة بالرئيس نيكسون، وأضاف كيسنجر: سأعود إلى واشنطن لعقد اجتماع لمجموعة عمل خاصة، ونحن نتابع موقف الأسطول السادس ويجب علينا تحريك الأسطول ابتداء من الغد، وقد أبلغنا رسائل للسعودية والأردن نطالبهم فيها بضبط النفس.
وبعد دقائق اتصل كيسنجر بالأمين العام للأمم المتحدة «كورت فالدهايم» وطلب منه العمل على تهدئة الموقف، فقال له فالدهايم: لقد كنت أمس جالسا بجوار رئيس الوزراء السورى ووزير الخارجية، ولم يذكرا لى أى شىء له صلة بهذا الأمر. وقال كيسنجر: وأنا كنت جالسا أمس بجوار وزير الخارجية المصرى ولم يقل لى أى شىء.
يقول كيسنجر: إننا كنا مقتنعين بأننا سنتعامل قريبا مع نتائج انتصار عسكرى إسرائيلى سريع، ولكنه بعد لحظات اتصل برئيس مجلس الأمن «سير لورانس كانتر» وقال له: يبدو أن الأحداث تتلاحق الآن بسرعة، ونريد أن نعرف ما قد يقع فى مجلس الأمن قبل أن نلجأ إليه.. بعد لحظات اتصل الأمين العام للأمم المتحدة بكيسنجر وقال له: جاءنا تأكيد من المراقبين التابعين لنا فى الشرق الأوسط يؤكد أن هناك قتالا ثقيلا على طول الخطوط المصرية والسورية ولا يوجد قتال على الخطوط الأردنية، واتصلت بوزير الخارجية المصرى فطلب عقد اجتماع للجمعية العامة، فقلت له: إنه يصعب عقد اجتماع بهذه السرعة، وسألته إن كان يرغب فى عقد اجتماع لمجلس الأمن فأجاب بأنه لم يتلق تعليمات بذلك حتى الآن، وقال إنه سيرسل بيانا وطلب منا توزيعه على الدول الأعضاء. وقال كيسنجر للأمين العام للأمم المتحدة: إننا نعمل على التوصل إلى موقف مشترك مع السوفيت للتوصل إلى وقف إطلاق النار والعودة إلى خطوط ما قبل البدء فى العمليات العسكرية (أى أن أمريكا كانت تريد فى هذه اللحظة عودة القوات المصرية إلى ما كانت عليه قبل العبور!).
بعد لحظات اتصل كيسنجر بكبير موظفى البيت الأبيض وطلب إبلاغ الرئيس نيسكون بأن المصريين تمكنوا من عبور القناة من خمس نقاط كما تمكن السوريون من القيام باختراق من نقطتين فى الجولان، وفقا لمعلومات مراقبى الأمم المتحدة.. وقال له: إذا لم يتعاون السوفييت معنا ودعموا العرب فيما يتعلق باستمرار القتال فإنه سيكون من الواجب عليها الانحياز للإسرائيليين، وإذا تمكن الإسرائيليون من الاستيلاء على أراض جديدة يجب علينا أن نضغط عليهم لإجبارهم على التخلى عنها.. وأعتقد أن أسوأ ما يمكننا القيام به هو أن نتخذ موقفا محايدا.
وقال كبير موظفى البيت الأبيض لكيسنجر: إن الرئيس نيسكون متهم بتحريك الأسطول السادس إلى موقع مناسب. وأجاب كيسنجر: الآن يتم استدعاء العاملين فى الأسطول وسوف يتم التحرك خلال ساعة.
بعد دقائق اتصل نائب السفير السوفيتى بكيسنجر لإبلاغه بطلبات القادة العسكريين الإسرائيليين بشحنات عاجلة من الأسلحة والذخائر.
كل هذه الاتصالات تمت فى ساعتين فقط.. فى اليوم التالى - 7 أكتوبر - قطع الرئيس نيكسون إجازته وعاد ليتولى القيادة وطلب عقد مجلس الأمن - بلغت خسائر إسرائيل فى اليوم الأول فقط على الجبهة المصرية 30 طائرة، و32 دبابة، وعدداً كبيراً من المدرعات، والقوات السورية تتقدم على 3 خطوط فى المرتفعات السورية، برغم الهجمات المضادة المكثفة وقوافل من طائرات الهليكوبتر الإسرائيلية تنقل القتلى والجرحى الإسرائيليين.. وقال القادة الإسرائيليون: إن سير القتال كان حرجا للغاية بالنسبة للقوات الإسرائيلية.
واتصلت جولدا مائير بكيسنجر وقالت له: إسرائيل فى خطر!!
لم يكن أحد يصدق أن المصريين قادرون على تحقيق المفاجأة.