نلتمس في مجلس الشوري دائما الحكمة, والصدق مع النفس, لأنه بحكم تكوينه بعيد عن المزايدات والمناورات والنفاق السياسي, ولذلك جاء تقريره عن تحديث مصر موضوعيا ومباشرا في التعبير عن الواقع القائم الآن, وكيفية تصحيح المسارات.
وتحديث مصر عملية كبيرة ومتعددة الجوانب, ولكن البداية الصحيحة هي تحديث الاقتصاد, وإذا نجحنا في ذلك فسوف يكون النجاح ممكنا في تحديث التعليم والزراعة والتشريع ونظم الرعاية الصحية والإسكان.. الخ, وتحديث الاقتصاد لابد ان يؤسس علي أرضية صلبة, من القيم والنظم والمؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تساعد علي البناء والتحديث وليس العكس.
وكي يكون تحديث الدولة قائما علي أرض صلبة أشار مجلس الشوري إلي سلبيات يجب القضاء عليها أولا, ولأن نجاحنا في ذلك هو المفتاح الوحيد لأبواب التقدم, والخطوة الأولي هي إعادة الاحترام إلي هيبة الدولة, وإلي القانون, وإلي أحكام القضاء, إذ تشهد المرحلة الحاضرة تعديات متكررة علي هيبة الدولة والقانون كما يسجل التقرير.. والخطوة الثانية هي استعادة ثقة المواطن بالحكومة, ولن يتأتي ذلك إلا بالالتزام بالصدق, والشفافية, وشجاعة الاعتراف بالمشكلات أيا كانت طبيعتها وخطورتها.. الاعتراف بوجود حالة الكساد التي يمر بها الاقتصاد المصري, ويري التقرير ان سياسات بعض أجهزة الدولة ساهمت بقدر في وجود هذه الظاهرة,, ويتوقع تفاقم هذه المشكلة نتيجة الآثار السلبية الخطيرة التي لحقت بالاقتصاد العالمي بعد11 سبتمبر, تضاف إليها مشكلة العجز المزمن في الميزان التجاري نتيجة زيادة الواردات وقلة الصادرات وبعض المنتجات المصرية غير صالحة للمنافسة في السوق الداخلية أو الاسواق الخارجية, سواء من ناحية السعر أو من ناحية الجودة, وتزيد من المشكلة الاقتصادية البطالة التي تحتاج إلي وقت طويل للتغلب عليها, وعدم استقرار سعر صرف الجنيه المصري, واتجاه عجز الموازنة العامة للدولة إلي الزيادة, وتفاقم مشكلة الدين الداخلي التي جاوزت حدود الأمان, ومن المشكلات المهمة أيضا تزايد المخزون السلعي والطاقات الإنتاجية العاطلة التي تعدت حدود الأمان, وانخفاض مستوي صيانة الثروة القومية, وتواضع مستوي الإدارة في الكثير من مؤسسات الدولة والحكم المحلي حتي أصبح تعامل المواطن مع هذه الأجهزة عبئا ثقيلا, مع انخفاض الكفاءة في الانفاق الحكومي إلي حد الإهدار احيانا, ورغم تأكيد الحكومة مرارا علي ترشيد الإنفاق الحكومي فإن كثيرا من الادارات الحكومية تسرف في الإنفاق العام بشكل ملحوظ..
يشير تقرير مجلس الشوري ايضا إلي خطورة القصور والتضارب في الاحصاءات الرسمية وتصريحات المسئولين وكأن كلا منهم جزيرة منعزلة لا علاقة لها بالآخرين.. وتفاقم مشكلة تهريب السلع بشكل خطير وساعد علي ذلك النظم الجمركية القائمة, ونتيجة لزيادة التهريب أصبحت الصناعة الوطنية تواجه تهديدا خطيرا..
ويتوقف التقرير عند آثار التهرب الضريبي ليطالب باعتباره من الجرائم المخلة بالشرف ولا أحد يعرف لماذا لايعتبر كذلك كما يحدث في الدول الأخري.
بمثل هذه المصارحة والوضوح في الاعتراف بوجود المشاكل, يبدأ مجلس الشوري مرحلة جديدة في التفكير السياسي تبدأ من قوله بأن غض البصر عن الحقيقة لن يلغي وجودها, وقد يؤدي إلي تفاقمها, ولهذا يجب علينا ان نواجه المشكلات بصراحة وجرأة..
ويمثل تقرير مجلس الشوري بداية فكر سياسي جديد ايضا لانه يطالب بتقوية دور الدولة في الحياة الاقتصادية, علي عكس التيار السائد الذي يطالب الدولة بالانسحاب وترك الاقتصاد للتفاعل الطبيعي وللقوي الحاكمة والمتحكمة فيه, ويزيد التقرير علي ذلك ان علي الدولة مسئولية اقتصادية كبري في تدعيم فلسفة الحرية الاقتصادية في مفهومها الحديث, بعد أن انتهت فلسفة الحرية الاقتصادية المطلقة وفقا لمبدأ دعه يعمل دعه يمر أي ترك أمور الاقتصاد تجري في اعنتها, وأصبح من الضروري تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية لتحقيق أهداف بالغة الأهمية منها تحقيق حد أدني من العدالة الاجتماعية في توزيع الدخل القومي, وايجاد فرص عمل, والتدخل لتصحيح مسار قوي السوق, وحماية المستهلكين.
يلقي التقرير علي الدولة مسئولية فرض الانضباط والنظام والشعور بالمسئولية نحو الوطن, ويقول إن الانضباط والنظام هما السر في تحقيق المعجزة الصينية, أما في مصر فان السلوك السلبي يعوق أي محاولة لتحقيق النهضة والتقدم.
وهذا التقرير في رأيي هو البداية الصحيحة لتحديث مصر.. لأن البداية الصحيحة هي المصارحة والصدق مع النفس لكي لا نغرق في أحلام اليقظة.. ولذلك أتمني أن تكون مناقشة هذا التقرير علي أوسع نطاق لكي يفهم كل مواطن ما يعوق انطلاقنا ويتحمل مسئوليته في الإصلاح.