الالتباس القائم في الغرب الآن حول الإسلام والمسلمين ليس جديدا, ولم يظهر فجأة مع انفجارات نيويورك وواشنطن, ولكن بداياته ظهرت منذ سنوات, حتي قبل أن تصبح نظرية هانتجتون عن صراع الحضارات نظرية شائعة ومعتمدة لدي كثير من المفكرين والسياسيين في الغرب.
والغريب أن الإنذار المبكر دق الأجراس في الغرب وليس في العالم الإسلامي, للتنبيه للمخاطر التي يمكن أن تصيب الإسلام والمسلمين نتيجة الخلط المتعمد ـ أو غير المتعمد ـ بين الإسلام والإرهاب, وتقديم مفهوم خاطئ للجهاد في الإسلام, وعلي أنه دين عدواني يحمل الكراهية للآخر, ويقف بالمرصاد للمخالفين له. ويرفض قيم التسامح والحريات الأساسية للإنسان بمفهومها الحديث عموما, والحرية الدينية خصوصا, ومع ذلك لم تقم المؤسسات الإسلامية بواجبها بجدية.. حتي أصبح الإسلام الآن متهما وفي موقف الدفاع!
هذه الصورة الغريبة كانت تتردد طوال سنوات النصف الثاني من القرن العشرين, في كتابات المفكرين وعلي ألسنة السياسيين, ولم يتنبه العالم الإسلامي إلي خطورتها, بل ولم يأخذها مأخذ الجد. وظلت المؤسسات الدينية الإسلامية كما كانت منذ قرون تردد الخطاب التقليدي بالحديث عن الإسلام بلهجة خطابية وإنشائية تفقد قيمتها عندما تترجم إلي لغات أخري غير اللغة العربية, وحين تخاطب عقولا أخري غير العقول العربية والإسلامية.
ولقد تعددت الإشارات الصادرة إلينا من الغرب ولم نفهمها.. تحدث فوكوياما عن الخطر الإسلامي وأنه العدو للغرب بعد انتهاء الاتحاد السوفيتي, وتوسع هنتجتون في شرح نظريته عن صدام الحضارات حتي استقر في الفكر الغربي حتمية الصدام بين الحضارة الغربية المتقدمة بالعلم والتكنولوجيا, والحضارة الإسلامية المتخلفة التي لا تريد مغادرة الماضي, والعيش في الحاضر, وترفض التطور, وتعادي المستقبل...الخ. وكان أمامنا كم هائل من دراسات المراكز الأكاديمية والسياسية في الولايات المتحدة عن الإسلام, وفيها تركيز واضح علي أن الإسلام والمسلمين يتسمون بالجمود ويرفضون مسايرة العصر فيما يتعلق بالتعددية, وحقوق المرأة, وحقوق الأقليات, والمشاركة الشعبية في الحكم, وتبرير حركات التطرف وسياسات القمع, وأن هذه هي المحاور التي يجب أن تدور حولها سياسات الولايات المتحدة مع الدول العربية والإسلامية, كما كانت التقارير الأمريكية تشير إلي الشكوك في الغرب عموما حول قدرة الدول الإسلامية علي التغيير والتطور والانفتاح ومعالجة مشكلات الفقر والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي, والمخاوف في الغرب من نمو التيارات والحركات الدينية التي تسمي بأسماء
مختلفة مثل الإسلام السياسي, أو اليقظة الإسلامية, أو الأصولية الإسلامية, وان كل هذه الظواهر توسع الهوة بين القيم الغربية وقيم العالم الإسلامي..
وكانت أمامنا حملات صحفية غير عادية تثير المخاوف في الغرب من الإسلام والمسلمين حتي أن مجلة محترمة مثل الايكونومست جعلت موضوع الغلاف لأحد أعدادها عام1993 عن العيش مع الإسلام مع صورة رجل يرتدي ملابس تقليدية, ويقف أمام مسجد وهو يحمل بندقية.. أما المقال الرئيسي فكان يقول: إن الإسلام يستأنف مسيرته, وإن عقيدة معادية للغرب تزداد قوة. وصدرت كتب كثيرة, وأفلام سينمائية, وبرامج وحوارات علي شاشات التليفزيون, ومعظم ماكان ينشر ويذاع عن تشويه صورة الإسلام والمسلمين في الغرب كان معروفا لنا منذ سنوات, بل وكان موضوعا كررنا الإشارة إليه والتنبيه إلي خطورته حتي أصبح حديثا مملا.
وأكثر من ذلك, سبق أن كتب وزير الأوقاف الدكتور حمدي زقزوق أكثر من مرة, وهو مفكر وباحث معروف في أوروبا ومسئول عن الدعوة, إلي أن سوء فهم الإسلام في الغرب يرجع إلي تشويه متعمد منذ قرون من قبل الحروب الصليبية حينما فتح المسلمون الأندلس, وحينما فتح العثمانيون فيما بعد القسطنطينية, وحاصروا العاصمة النمساوية فيينا, وقبل ذلك شهدت العصور الوسطي في أوروبا الكثير من الافتراءات ضد الإسلام والمسلمين, وهناك أعمال أدبية تفوق الحصر تصف المسلمين بأنهم عباد أصنام, وشارك في ذلك أدباء كبار من أمثال دانتي وفولتير حتي ترسخ في العقلية الغربية أن الإسلام دين عدواني متعصب شهواني تواكلي...إلخ. ولاتزال تدرس للأطفال في المدارس الغربية معلومات خاطئة عن الإسلام والمسلمين, ويشير الدكتور زقزوق في ذلك إلي دراسات قامت بها الأكاديمية العلمية الإسلامية بكولونيا بألمانيا حول المعلومات التي تشتمل عليها الكتب المدرسية عن الإسلام في الدول الأوروبية..
القصة طويلة.. عمرها قرون.. وهناك جماعات مصالح تعمل بجدية وتزرع الأفكار المسمومة عن الإسلام والمسلمين في عقول النخبة من المثقفين والمفكرين والقادة السياسيين.. ولدي العرب والمسلمين قدرالا بأس به من المعرفة عما يحدث في الغرب في الجامعات ومراكز البحوث والأحزاب وفي وسائل الإعلام والثقافة.. وليس في هذا جديد.. فلماذا نفاجأ عندما تصدر عن مسئولين كبار في الغرب تصريحات أو فلتات لسان تكشف عما في الضمائر والقلوب؟.. ولماذا لا نلوم أنفسنا بدلا من أن نلوم غيرنا؟.. لماذا لا نسأل أنفسنا: ماذا فعلت الدول الإسلامية؟.. وماذا فعلت المؤسسات الإسلامية وهي بالعشرات..؟ وماذا فعل المؤتمر الإسلامي..؟
كل ما تفعله هذه الهيئات أن توجه الخطاب للمسلمين لإقناعهم بما في الإسلام من قيم الحضارة والتسامح والمساواة والتقدم.. فالمسلمون يخاطبون أنفسهم.. ويقنعون المؤمنين بالإسلام بفضائل الإسلام.. ولم تقم هذه المؤسسات بدورها.. لم تنظم حلقات علمية مع الخبراء والمفكرين ورجال الدين في الغرب للحوار بصراحة عن تشويه الإسلام.. ولم تقدم دراسات جادة بلغات الغرب وبالأسلوب العلمي العقلي الذي يناسب العقلية الغربية.. ولم تسافر وفود من علماء المسلمين المؤهلين والقادرين علي مخاطبة النخبة في أمريكا وأوروبا.. وما تم عمله من مؤتمرات حتي الآن لم يخرج عن كونه احتفاليات ولقاءات اجتماعية وسياحية..
الآن دقت نواقيس كثيرة.. لكي تقوم الدول والمؤسسات والجامعات والمفكرون بجهد حقيقي وجاد ومستمر.. لتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام.. وإذا لم يتم ذلك فسوف ندفع الثمن باهظا.. بأكثر مما نتصور!!