الفشل فى حياة عبد الوهاب

من رأى عبد الوهاب وهو فى أوج مجده، وهو يتربع على عرش الغناء والموسيقى، وبعد أن توجه الشعب بلقب «موسيقار الأجيال».. من رآه فى هذه الفترة لا يتصور أن هذا الرجل عاش حياة صعبة ذاق فيها مرارة الفقر وألم الجوع، ومرارة الفشل. حياة عبد الوهاب درس لكل صاحب موهبة بأن الموهبة وحدها لا تصنع المجد لصاحبها إذا لم يكن معها «الصبر» و«الإرادة» والإصراره وأن الطريق إلى المجد ليس مفروشا بالورود ولكنه دائما مفروش بالأشواك، وفوق ذلك على صاحب الموهبة - المؤمن بموهبته - أن ينتبه إلى أمرين هما من لوازم النجاح، الأمر الأمرُّ هو عدم الاكتفاء بالموهبة وضرورة صقلها وتنميتها بالدراسة والتعلُّم من تجارب الآخرين، والأمر الثانى أن يتعود على تحمل - والأفضل تجاهل - كيد الكائدين وإساءات الحاقدين، وأخيرا ألا ينتظر الصدفة وضربة الحظ وأن يسعى ويبادر ويتقدم لأن الخط لا يلتقى مع الكسالى مهما تكن موهبتهموكم من موهبة ماتت ودفنت لأن صاحبها لم يدرك درس النجاح. كثيرون لا يعرفون أنه أوشك مرة على أن يعتزل الغناء والتلحين لكى يعمل فى وظيفة كتابية على الدرجة التاسعة فى الحكومة (!) وأنه عجز عن الحصول على الطعام لمدة أسبوع (!) وأن الجمهور فى مرة طرده من فوق المسرح معترضا على غنائه (!) وأنه توقف عن الغناء ثلاث سنوات بقرار من حكمدار القاهرة (!) وأنه تقدم مرة للزواج من فتاة أحبها ورفضه أبوها لأنه يعمل «مغنواتى» (!) وهذه أسرار لم يكشفها إلا مؤخرا فى جلسات يومية مع الكاتب الراحل محمود عوض، وأضاف اليها محمود عوض أنك مع عبد الوهاب مع مليونير فقد ثروته منذ خمس دقائق، فهو بخيل ويسمى ذلك حرصا وهو من تأثير أيام الفقر التى عاشها واستقر فى عقله الباطن أن الضمان فى حياته هو فنه وأمواله وكلاهما يمكن أن يبددهما الإسراف.

أول مأساة فى حياته لم يكن واعيا بها لأنها حدثت يوم مولده وظهرت عليه أعراض غريبة فكان لونه يتحول من الأصفر إلى الأزرق وهمس الطبيب لوالده - الشيخ عبد الوهاب - ينصحه، قال له: غدا الجمعة إجازة فى الحكومة يستحسن أن تستخرج شهادة وفاة من الآن، وفعلا ذهب الأب وعاد ومعه شهادة الوفاة، ولكن عادت الروح اليه فقالوا: هذا الولد بسبع أرواح، وعاش حتى احتفل بعيد ميلاده رقم 109 (!) ويحمل شهادة ميلاد وشهادة وفاة بتاريخ واحد!

***

فى طفولته المبكرة كان يهرب من البيت ليقضى ساعات الليل فى الأفراح والموالد ويذهب إلى الأفراح التى تغنى فيها مشاهير المطربين، وبعد ذلك، عرف طريقه إلى مسرح «الكلوب المصرى» فى حى الحسين ويعيش مع غناء وتمثيل فرقة فؤاد الجزايرلى مقابل قرش صاغ واحد ثمن تذكرة «الترسو».. وعندما يعود متأخراً، كانت تنتظره كل ليلة «علقة»، ولكى يشغله أهله عن السهر فرضوا عليه أن يذهب إلى «الكتاب» وأن يعمل فى محل «محمود شمعون» بحارة قواديس فى عابدين مقابل خمسة مليمات فى اليوم.

وهو فى التاسعة استمع فؤاد الجزايرلى إلى صوته وألحقه بفرقته ليغنى بين فصول المسرحية لتسلية الجمهور فكان يسمى نفسه محمد البغدادى لكى لا يعلم أهله ويقف على المسرح بالطربوش والجلباب ليغنى «أنا عندى منجة. وصوتى كمنجة. أبيع وأدندن. وآكل منجة»، ولكن شقيقه - الشيخ حسن - علم بذلك واعتبر وجوده مع المشخصاتية «عاراً ومسخرة» وكان نصيبه علقة وحرمانا من الخروج من البيت بعد الظهر. ولكن عبد الوهاب فى سنة 1918 هرب من البيت أسبوعا كاملا ليلتحق بالسيرك ويسافر مع أفراده إلى دمنهور ليغنى بين الفقرات ولم يحقق النجاح الذى كان يحلم به فعاد إلى القاهرة ليلجأ إلى أحد أصدقاء أبيه لكى يوسطه عنده و«عفا الله عما سلف»، ولكنه لم يستسلم للفشل ولا لتضييق أهله عليه فالتحق بفرقة عبد الرحمن رشدى المحامى ليغنى بين الفصول على مسرح برنتانيا وكان يظهر فى فستان على أنه طفلة لكى يقنح الجمهور بصوته الرفيع. وكانت الأسرة - بعد أن أصابها اليأس - قد وافقت على التحاقه بهذه الفرقة «المحترمة» ولكنه فى ليلة فوجىء بحضور حكمدار القاهرة «رسل باشا» بناء على شكوى من أمير الشعراء أحمد شوقى طالبه فيها بمنع هذا «الطفل» من العمل ليلا لأن هذا العمل يعتبر منافيا للأخلاق، وعاد إلى بيته وفى قلبه أحزان الدنيا.. وعاد إلى العمل بعد ثلاث سنوات على مسرح ماجستيك مع فرقة على الكسار ليغنى بين الفصول «ويلاه ما حيلتى.. ويلاه ما عملى» وزار الفرقة سيد درويش واستمع إلى عبد الوهاب واختاره ليشترك فى أوبريت شهرزاد وعلى الرغم من أن سيد درويش غنى فيها فشلت الرواية، وجرب سيد درويش أن يقوم عبد الوهاب بالدور ولكنها فشلت فى ليلة الافتتاح، وقال البعض إن الفشل يشبه فشل بوتشينى صاحب أوبرا حلاق أشبيليه. فكتب أحد النقاد «لقد نجحت الرواية وسقط الجمهور».. وعاد عبد الوهاب إلى بيته ودموعه لا تنقطع.. وفى سنة 1922 عرض بديع خيرى على عبد الوهاب أن يسافر مع فرقة نجيب الريحانى إلى فلسطين ولبنان وسوريا فى رحلة فنية.. وقال عبد الوهاب لمحمود عوض «رحلتنا هذه فشلت فشلا ذريعا، ولم تنجح فكرة الغناء بين الفصول فى هذه البلاد».

***

فى سنة 1924 أصبح محمد أفندى عبد الوهاب مدرسا للأناشيد بمدرسة الخازندارة، وحين تذكر عبد الوهاب ايامه فى هذه المدرسة قال: «أصبحت كذلك مدرسا فاشلا، وكان أكثر التلاميذ فشلا هو إحسان عبد القدوس، وأصبح الفقر هو القاعدة فى حياتى» ولكن جاءه الفرج من حيث لا يحتسب، فقد سمعه محمود شاكر باشا مدير المساحة عندما زار نادى الموسيقى الشرقى ووعده بوظيفة ولكن عبد الوهاب «راحت عليه نومه» فلم يلحق موعد الباشا قبل أن يسافر فى إجازة طويلة.. ومع ذلك كان الفشل رفيقا لا يمنعه من مواصلة السعى إلى أن التقى بشوقى ففتحت له كل الأبواب، وأطلق عليه شوقى لقب «الكروان» ودعاه للعشاء فى مطعم الكورسال بشارع الألفى يتذكر عبد الوهاب هذه الليلة فيقول لمحمود عوض «تناولت أفخر عشاء فى حياتى، وعرفت شوقى بك ينبوعاً من الأدب والعلم والزوق والإحساس بالحياة»، وبعد أيام كتب شوقى أول أغنية من تأليفه ليغنيها عبد الوهاب تقول كلماتها:

توحشنى وأنت ويايا

واشتاق لك وعنيك فى عنيا

واتذلل والحق معايا

وأعاتبك ما يهونش عليا

وفى نفس الوقت واصل الدراسة فى معهد الموسيقى الشرقية الذى التحق به بتوصية من شوقى وتعلم العزف على العود والتحق بمدرسة «برجرين» ليتعلم التوزيع الأوركسترالى على يد موسيقى روسى اسمه «شطالوف» ولكنه لم يستمر فى هذه الدراسة لاعتقاده أنها لا تناسب زوق المستمع الشرقى. وفتح له القدر الباب مرة ثانية حين غنى فى حفل خاص وكان من بين المدعوين العقاد والمازنى ورامى والتابعى وكتب محمد التابعى بعدها فى الأهرام: «لقد عودت نفسى الحيطة والحذر ولا أتورط فى مديح أو هجاء، ولكننى أقول اليوم عن عبد الوهاب إن له أجمل صوت سمعت، وإنه أصدق ملحن عرفت».. قرأ عبد الوهاب هذه الكلمات وبكى.. كانت دموعه من شدة الانفعال والسعادة.

وفى سنة 1925 صعد عبد الوهاب درجة أعلى على سلم النجاح.. أقدم على تلحين أوبريت «قنصل الوز» لفرقة نجيب الريحانى، ونجح فدعته منيرة المهدية (سلطانة الطرب) لكى يلحن لها أوبريت «المظلومة». ونجح. بعد ذلك عرضت عليه منيرة المهدية منه أن يكمل الحان مسرحية (كليوباتره) التى بدأها سيد درويش ومات قبل اكمالها وقام فيها عبد الوهاب بدور «انطونيو» وكانت هذه هى لحظة الاقتراب من القمة. وعن طريق شوقى التقى عبد الوهاب بكبار شخصيات المجتمع.. الشيخ عبد العزيز البشرى، والنقراشى باشا، والدكتور محمد حسين هيكل، وفكرى أباظة، وكان رأى عبد الوهاب أن ندوات الأدب والشعر والعلم مع هؤلاء.. جعلت منه عقلا واسعا قادرا على أن يرى الحياة..

الخطوة الأخيرة التى وصل بها إلى المجد كانت حين قدمه شوقى إلى الملك فيصل ملك العراق وغنى أمامه، ودعاه الملك فيصل لحضور حفلة عيد جلوسه، وكتب له شوقى أغنية «يا شراعا وثراء دجلة يجرى». وصحبه شوقى فى رحلة إلى باريس فتح فيها عينيه على المتاحف والأوبرا والحفلات الموسيقية.

وبعد سلسلة متتابعة من حلقات الفشل أصبح اسم محمد عبد الوهاب يدوى وصوته يلعلع فى انحاء العالم العربى ويعرفه العالم على أنه الامتداد العصرى لسيد درويش وحلقة الوصل بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية.. ودخل التاريخ.

هكذا من يتحمل الفشل دون أن يقتله اليأس يستحق أن ينال النجاح.

وأصبح عبد الوهاب من الخالدين.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف