حكايات عن الملكة فريدة
اأحب المصريون الملكة السابقة فريدة وثاروا على الملك فاروق، كانت الملكة فريدة فى عيون المصريين سيدة مصرية من أبناء الشعب، وليست من سلالات الملوك، جلست على عرش مصر إلى جانب فاروق حين كان ملكا شابا محبوبا من الشعب وقريبا منه، وعندما أصبح فاروق ملكا فاسدا لم تستطع أن تحتمل فضائحه وفساده، وضحت بالتاج الملكى وبالعرش، وتمسكت بالطلاق، وعاشت بعيدة عن الأضواء كمواطنة مصرية لا أكثر ولا أقل.. وظلت محتفظة باحترام الناس إلى آخر يوم من عمرها.
مؤرخة الملكة فريدة وصديقتها الدكتورة لوتس عبد الكريم تحدثنا عنها فى كتاب ملىء بالتفاصيل والقصص المثيرة..
اسمها صافيناز يوسف ذو الفقار من مواليد الإسكندرية عام 1921، والدها يوسف باشا ذو الفقار وكيل محكمة الاستئناف المختلطة، ووالدتها ابنة محمد سعيد باشا الذى رأس الوزارة أكثر من مرة، وكانت وصيفة الملكة نازلى أم فاروق.. ذات يوم اصطحبتها أمها إلى القصر وتعرفت على شقيقات فاروق، واقترب منها فاروق ونشأت بينهما قصة حب انتهت بزواجهما فى 20 يناير 1938 وكان عمرها 17 عاما.. وغير الملك اسمها إلى فريدة، لأنه يبدأ بحرف الفاء الذى كان شعارا للأسرة المالكة منذ تولى الملك فؤاد - والد فاروق - العرش.
بعد سنوات قليلة من الزواج السعيد لم تستطع احتمال استبداد الملكة نازلى وسيطرتها على ابنها الملك، كما لم تستطع أن تحتمل حماقات فاروق ونزواته، وعاملها فاروق بأسلوب مهين أمام خدم القصر، وتحداها بلقاء عشيقاته فى جناحه الملاصق لجناحها، وبعد تكرار المشادات بينهما تركت القصر وأصرت على الطلاق.. ويقول مصطفى أمين إن بناتها بقين يلمنها على هذا الطلاق، وقد شقيت لفراق بناتها، فقد أخذهن فاروق معه إلى المنفى، وفى الستينات اشتاقت للحياة مع بناتها فطلبت من على أمين أن يكتب باسمها خطابا إلى الرئيس جمال عبد الناصر يطلب منه السماح لها بالسفر إلى الخارج لتعيش مع بناتها، ووافق عبد الناصر على سفرها، ولكنها فوجئت بعد سفرها بأن العلاقة القوية التى كانت بينها وبين بناتها قد فترت بعد سنين البعاد، وكانت بناتها يعتقدن أنه لولا طلاق أمهن لبقى فاروق على العرش، وأنها مسئولة عما حدث له! وظلت هى حريصة على ألا تقول كلمة ضد فاروق.
ويحكى مصطفى أمين كيف اضطرت الملكة السابقة إلى أن ترسم وتبيع لوحاتها، وكان بعض الأثرياء العرب يشترون هذه اللوحات على سبيل المساعدة لتستطيع أن تعيش، وكان الرئيس أنور السادات قد وعدها بأن يعطيها شقة على النيل، ولكن الذين تلقوا الأمر لم ينفذوه إلى أن منحها الرئيس مبارك شقة من غرفتين فى المعادى أقامت فيها هى ووالدتها.
ويحكى مصطفى أمين أيضاً أن الملكة السابقة وضعت مالاً ورثته عن أبيها فى أحد البنوك، فقام البنك بتحويل المبلغ إلى إدارة الأموال المصادرة دون أن ينتبه إلى أن هذا المبلغ غير خاضع لقانون مصادرة أموال أسرة محمد على، ورفعت فريدة قضية كسبتها، ولكن البنك استأنف الحكم وأخيراً تم الاتفاق على أن يدفع البنك المبلغ مقابل شراء أربع لوحات من رسمها.. ومن حكايات مصطفى أمين أن التليفون رن فى بيتها - بعد الثورة - وقال لها المهندس على نصار إن لجنة المصادرة تستأذن للحضور لتنفيذ قرار المصادرة فقامت بجمع مجوهراتها والهدايا التى تلقتها وهى ملكة ووضعتها فى حقيبة، وعندما حضر المهندس على نصار سلمته الحقيبة، ولم يشأ أن يفتش البيت كما جرت التعليمات، وعامل الملكة بكل احترام، وفى اليوم التالى طلبت على نصار وقالت له إنها كانت تفتش دولاب ملابسها فوجدت فيه «بروش» لم تعثر عليه حين كانت تجمع مجوهراتها، وطلبت منه أن يرسل من يأخذ هذا «البروش»، وذهب المهندس على نصار وتسلم «البروش» وكان يساوى عشرة آلاف جنيه فى ذلك الوقت.. هذا ما كتبه عنها مصطفى أمين.
وتقول لوتس عبد الكريم إن الملكة فريدة لم تكن لغتها العربية سليمة، ولذلك كانت تطلب منها قراءة ما لا تستطيع تحصيله، وكانت ترى أن هناك مؤامرة تحاك فى الخفاء ضد البلد، وتعمل على تشويه جماله، وهناك مؤامرة أيضاً على النيل، لأنه سر الحياة لمصر، وهناك تحطيم للقيم الجمالية والذوق.. وتحكى لوتس عن صديق ثالث لهما هو مستر «نيفل بيرد» فنان انجليزى، وأستاذ موسيقى عاش فى مصر أكثر من عشرين عاما، مثقف يجيد التصرف وقت الحاجة، تعاون فى رعاية الملكة السابقة مع لوتس عبد الكريم على تخفيف آلام الوحدة عنها، فكان يصحبهما لمشاهدة البرامج الثقافية وحفلات الموسيقى وعروض المسرح.. وكانت تتابع برنامج العلم والإيمان لمصطفى محمود وتتصل به أحيانا لتستفسر منه عما جاء فيه، وكانت تقرأ كثيرا فى كتب الروحانيات وتداوم على قراءة القرآن، وتحتفظ بالإنجيل وتقرؤه وتؤمن بالسحر، وتردد:(نازلى كانت تكرهنى واستعملت السحر كى تعذبنى فى كل مراحل حياتى، فحرمتنى من زوجى، ثم من أولادى، ثم حرمتنى من راحتى واستقرارى، وأخيرا حرمتنى من صحتى..!)، ولذلك كانت تتردد على الذين يدعون فك السحر، حتى أنها ذهبت إلى أحدهم فى الصعيد مع لوتس عبد الكريم.
وفى مطعم «فلفلة» كانت تستمتع بأكل الفول والطعمية والبصارة، وتقول إن الفول أشهى من كل اللحوم.. وفى أواخر أيامها كانت كالطفل العصبى الذى ينطلق صياحه تلقائيا دون قصد أو سبب ظاهر، ويبدو أن ذلك كان نتيجة لإسرافها فى تناول المهدئات منذ شبابها كما اعترفت بذلك، فبعد أول يوم انجبت فيه ابنتها الكبرى فريال وخاب أمل فاروق فى أن تلد له ولى العهد، بدأت تدمن المهدئات، خاصة بعد أن أنجبت بعد ذلك ابنتها الثانية، ثم الثالثة لكى تحتمل غضب فاروق وثورته فى كل مرة وإهاناته لها، ثم أصبحت العلاقة بينهما متوترة بعد ان استمر فاروق فى علاقة غير بريئة مع إحدى وصيفاتها بالقصر وكانت على جانب كبير من الوقاحة وتكيد لها بأن تجاهر بعلاقتها بالملك.. وأدى ذلك إلى ازدياد الجفوة بينهما حتى أصبحا غريبين تحت سقف واحد.
عاشت فريدة فترة فى باريس فى شقة صغيرة اشتراها لها شاه إيران السابق، وكانت تعيش من مساعدات مالية من الشاه ومن بعض الشخصيات العربية ومن بيع لوحاتها، وهناك أصيبت بانهيار عصبى، فعادت إلى مصر. وحين كانت تعاودها نوبات الاكتئاب كان تنبطح أرضاً وتأخذ والدتها فى أحضانها وتظل ساكنة هكذا ساعات طويلة، وكانت أمها قد تعدت التسعين من عمرها لا تتكلم ولا تعى شيئا، كانت فريدة تقول عن أمها التى بلغت ارذل العمر:(إنها لا تعرفنى ولكنها الإنسان الوحيد الذى يسعدنى الجلوس إليه)، وظلت ترعى امها فى مرضها الأخير وتعد بنفسها حمامها وتعطرها وتعالجها وتدللها وتخشى عليها من البرد والحر.. وكانت تقول:(تركت باريس بعد أن عذبتنى الوحدة)، ومع ذلك لم تكن تنام إلا بعد ابتلاع قرص منوم.
قالت فريدة لصديقتها لوتس عبد الكريم إن جمال سالم عضو مجلس قيادة الثورة كان رئيساً للجنة المصادرة، وأنه طلبها للزواج فثارت ثورة عارمة.. وخصصت لها الدولة معاشا قدره 200 جنيه شهريا.
وبدأت رحلة النهاية.. ذات صباح ارتفعت حرارتها، وفى مستشفى القوات المسلحة تم إجراء التحاليل الطبية فاكتشفوا أنها تعانى من لوكيميا الدم، وقام وزير الصحة بتسهيل سفرها للعلاج فى باريس على نفقة الدولة فى معهد «جوستاف روس» الشهير، ولم تحتمل هناك منظر المرضى بالسرطان وهم فى مرحلة متأخرة، ورفضت أن يتم نقل دم إليها، لأنها كانت تخاف أن تصاب بالإيدز، وطلبت السفر إلى النمسا، حيث سمعت عن طبيب عجوز يعالج السرطان بالأعشاب، وعادت إلى مصر ومعها كميات من العقاقير بالأعشاب، وظلت تعالج نفسها بهذه الأعشاب مع عصير البقدونس المغلى.. وتظن أنها تتحسن بهذا العلاج، ولكنها كانت تضعف وتنهار بالتدريج.. وبعدها تحسنت حالتها، وسافرت إلى أمريكا بدعوة من الدكتور فاروق الباز لافتتاح معرض توت عنخ آمون، وفى أحد المستشفيات هناك اكتشفوا أنها مصابة بمرض الكبد الوبائى، وأشاروا عليها بالعودة إلى مصر لأن حالتها ميئوس منها، وفى مصر دخلت فى غيبوبة كبدية.. وحين تحسنت حالتها نوعا ما ظنت أنها شفيت فسافرت إلى سويسرا لرؤية بناتها وأحفادها، وهناك انهارت وادخلوها المستشفى، ثم عادت إلى القاهرة وهى فى النزاع الأخير.
ولكل شىء نهاية.