التنمية بأموال الفقراء

تتلخص أسباب الأزمة الاقتصادية في مصر وجميع الدول النامية في وجود فجوة بينها وبين الدول الصناعية المتقدمة‏,‏ وأن الناتج القومي محدود ويقل عن تغطية الاحتياجات‏,‏ والادخار أيضا محدود‏,‏ والسكان في زيادة مستمرة وبمعدلات تسبق معدلات التنمية الحالية‏.‏

يضاف إلي هذه الأسباب أن مرحلة التحول إلي الحرية الاقتصادية أفرزت فئة أطلق عليها اسم رجال الأعمال‏,‏ بينما هي فئة تبحث عن تحقيق أكبر ربح في أسرع وقت ودون أدني مخاطرة ومن أي طريق مشروع أو غير مشروع‏,‏ وهذه الفئة كانت عبئا علي عملية التنمية وأساءت إلي صورة رجل الأعمال عموما كما أساءت إلي رجال الأعمال الشرفاء‏..‏ ولم تكن هذه الفئة الانتهازية قوة دفع لزيادة المصانع أو استصلاح مزيد من الأراضي أو تطوير الإنتاج ودعم البحث العلمي لإقامة قاعدة علمية وتكنولوجية‏,‏ هذه الفئة استسهلت العمل في التجارة والاستيراد بمفهوم الصفقات واغتنام الفرص‏,‏ وهي التي أدخلت السلع الفاسدة وأجهدت أجهزة مكافحة التهريب والتهرب من الضرائب والجمارك والغش بكل أنواعه‏.‏ والدرس المستفاد من هذه المرحلة أن زيادة الحوافز المادية وحدها لا تكفي لتكوين طبقة رجال أعمال حقيقيين وشرفاء ومنتجين‏,‏ ولكن لابد معها من استثارة الحوافز الأخلاقية والاجتماعية‏,‏ وبلورة مفهوم المسئولية الاجتماعية لرجال الأعمال وأصحاب الأموال‏,‏ وإن كان هذا لا ينفي وجود رجال أعمال‏.‏


من هنا لابد من البحث عن طريق جديد للتنمية تقوم فيه الدولة بدور‏,‏ ويقوم فيه الأفراد بدور‏,‏ في إطار فلسفة اقتصادية واجتماعية واضحة تكون موضع اتفاق والتزام من الجميع‏.‏ والحاجة إلي طريق جديد ليس اقتراحا يمكن قبوله أو رفضه‏,‏ ولكنه ضرورة مفروضة‏,‏ لأن تكرار نماذج التنمية التي تقدمت بها الدول الغنية ليس ممكنا في الظروف العالمية والداخلية للدول الصغيرة الآن‏,‏ كما أنه ليس ممكنا حل المشكلات التي تواجه هذه الدول النامية بتطبيق النظريات التي في الكتب أو بإعادة تجارب سابقة نجحت في الماضي في بعض الدول في ظل عوامل مختلفة‏..‏ فالعوامل المؤثرة في الحياة الاقتصادية والتنمية في مصر مثلا مختلفة عن العوامل التي حققت التنمية للدول الغربية أو اليابان‏.‏

لذلك تحتاج الدول النامية ـومصر طبعاـ إلي استراتيجية جديدة تقوم أساسا علي إشراك أكبر قطاع من المواطنين علي اختلاف قدراتهم ومستوياتهم في مشروعات التنمية‏,‏ وإثارة روح جماعية للنهضة والبناء وإثارة الإرادة الشعبية للمشاركة في تمويل عملية كبري للتنمية بالمدخرات الفردية‏,‏ خاصة المدخرات الصغيرة‏,‏ مع ابتكار صور مختلفة من التمويل بشروط ميسرة لتحويل قطاع واسع من المواطنين من أجراء أو عاطلين إلي أصحاب أعمال صغيرة ومنتجين‏.‏


وهذه الفكرة لابد أن تبدأ بمفهوم جديد هو أن التنمية ليست مجرد الحصول علي التكنولوجيا والمعدات والآلات‏,‏ فقد يحقق ذلك مصالح الدول الكبري أكثر مما يحقق مصالح الدول النامية‏,‏ لأن من مصلحة الدول الكبري أن تبيع الأجهزة والآلات وتخصص لذلك مؤسسات للترويج والتسويق وتستخدم وسائل مشروعة وغير مشروعة لزيادة المبيعات‏..‏ أهم من شراء الآلات والتكنولوجيا أن يكون لدي كل الدول النامية القدرة علي استيعاب التكنولوجيا‏,‏ ودخول عصر التكنولوجيا حضاريا وثقافيا‏,‏ وإلا فلن تجني من التوسع في عمليات الشراء سوي مزيد من التبعية المالية والتكنولوجية‏.‏

والبعد الغائب حتي الآن أن التنمية لن تحقق أهدافها إلا حين تتكامل مع الجماهير‏,‏ وتجد لها أرضية متفهمة واسعة جدا لدي الرأي العام‏,‏ ولدي المثقفين بوجه خاص‏,‏ وقد نحتاج إلي وقت لكي ندرك أن التنمية الاقتصادية الناجحة تبدأ في العقول أولا قبل أن تبدأ بالمباني والآلات والتشريعات‏,‏ وأن التناقضات والفجوات الثقافية وعدم التوافق في المفاهيم العامة عقبة أمام التنمية‏..‏ وهنا نحتاج إلي تكوين العقلية الاستثمارية والثقة بالنفس والاستعداد للمخاطرة‏,‏ ولعلنا نستفيد مما حدث في بعض دول العالم الثالث التي تحركت كثيرا ولكن حركتها كانت السير في المكان‏,‏ فلم تتقدم‏,‏ وبعضها عاش فترة من الازدهار والتقدم المصطنع المؤقت ثم اصطدم بالركود أو تقهقر إلي الوراء‏.‏ وكانت في الظاهر تبدو في حالة انتعاش وعمران وفي الباطن كان الاستهلاك أكبر من الإنتاج‏,‏ ونمو القطاعات غير المنتجة أسرع وأوسع من نمو القطاعات المنتجة‏,‏ وكانت الجماهير غير متجاوبة مع عملية التنمية أو ساد فيها تصور أن دورها أن تنتظر لتتلقي ثمار التنمية دون أن يكون لها الدور الأول أو المسئولية الأولي فيها‏.‏

ونتيجة لعدم نجاح نماذج التنمية القديمة في عالم اليوم بدأت تظهر الدعوة إلي التنمية بالاعتماد علي النفس أولا ثم الاعتماد علي الغير بعد ذلك‏,‏ وارتفع شعار ساعد نفسك‏..‏ قبل‏B‏ ن تطلب من غيرك أن يساعدك‏,‏ ولو أننا نظمنا عملية تعبئة واسعة وشاملة للمشاركة الشعبية في التنمية‏,‏ ولو بالتفكير في إعادة مشروع القرش الذي أقام مصنعا بقرش من كل موطن ليصبح جنيها من كل مواطن لإقامة مصنع لأبنائك وتوجيه الحملة إلي قطاعات واسعة من الجماهير لفتح دفاتر توفير‏,‏ أو بطرح أسهم الشركات الصناعية الجديدة بالتقسيط‏..‏ أو بإعادة بنوك التنمية التي تقبل إيداعات ابتداء من جنيه واحد‏..‏ وإذا صدقنا أن الفقراء أيضا يمكن أن يسهموا في التنمية وقد يكونوا أكثر حرصا عليها لأن حياتهم ومستقبل أولادهم متوقف علي نجاحها‏..‏

وهذا موضوع قد يحتاج إلي استكمال التفكير فيه‏.‏


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف