فى ذكرى عبد الوهاب

يلاحظ أن مرت ذكرى رحيل الموسيقار محمد عبد الوهاب فلم أشعر أنه غاب عنا، صحيح مرت سنوات على رحيله لكن حضوره مازال حتى الأن كما كان أثناء حياته ، والعادة جرت على أن يخبو نجم الإنسان ـ وحتى العظماء ـ سنة بعد رحيلهم ـ ولكن ما حدث مع عبد الوهاب ـ هو العكس.. فإنه يزداد حضوراً وتألقاً سنة بعد سنة، وكلما استمعنا اليه نكتشف جانبا من جوانب عبقريته الموسيقية وجمال صوته ومقدرته على الأداء والتعبير عن معانى الكلمات بصوته .. تكتشف أنه مثل المعدن النفيس تزداد قيمته كلما تقادم به العهد.
ولقد زرت كل البلاد العربية دون استثناء، وكان يدهشنى أن أسمع فى كل بلاد العرب صوت عبد الوهاب ـ وأم كلثوم . قال لى صديق فى تونس : هما ملك لكل العرب وليس مصر وحدها.. وفى المغرب كنت أسمع صوت عبد الوهاب ـ فى كل مكان أذهب اليه وكأنهم لا يعرفون إلا عبد الوهاب وعندما دخلت قصر الملك الراحل الحسن الثانى قال لى احد المسئولين فيه إن الملك الحسن يحب صوت عبد الوهاب ويسمع كل أغانية القديمة والجديدة ويدعوه إلى القصر ليستمع منه مباشرة ، ومؤخرًا ضم عبد الحليم حافظ الى قائمته المفضلة وكان يدعوه ايضاً ويقضى ساعات يستمع اليه وختم الرجل حديثه قائلاً : ياصديقى شعب المغرب شعب فنان يتذوق الفن الرفيع ولذلك ستجد فى المغرب مكانة خاصة لعبد الوهاب و أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفيروز.. هؤلاء ثروة نعرف قيمتها .
من حظ عبد الوهاب أنه وجد رعاية لم يجدها غيره ، فقد تبناه أمير الشعراء احمد شوقى ، وكتب له أغانى راقية فى المعانى والألفاظ ، وقدمه احمد شوقى لكبار الشعراء والصحفيين والسياسيين ، وكان من هؤلاء كامل الشناوى الذى كان صاحب القلم الساحر والتأثير السحرى على القراء وكامل الشناوى استاذ لكثير من نجوم الصحافة المصرية الحديثة ، وتحولت معرفة كامل الشناوى بعبد الوهاب إلى صداقة دامت أكثر من ربع قرن ، وكتب بعدها فى مذكراته «كيف عرفت شوقى وعبد الوهاب» فقال إنه فى شهر يناير 1931 عرف عبد الوهاب .. كان شاباً صغيرا يردد الناس اسمه بحماسة وانفعال ، والفنانون جمهورهم فنان مثلهم وفى هذا الوقت كان كبار السن لايعترفون إلا بمطرب واحد هو صالح عبد الحى ، ولذلك عندما ظهر عبد الوهاب سخر منه المعجبون بصالح عبد الحى ولكنه عرف كيف ينتزع الإعجاب منهم ، وساعده على ذلك امير الشعراء أحمد شوقى الذى كان يحمل لعبد الوهاب عاطفة والد ورعاية أستاذ وحنان شاعر ، فاختار له أساتذة يعلمونه أصول الغناء ويوجهونه إلى الثقافة والأدب ، وألحقه بمعهد الموسيقى الشرقية ، وتولى تقديمه إلى القادة والزعماء وعلى رأسهم سعد زغلول . وكان شوقى كلما نظم قصيدة يقرأها أولاً لعبد الوهاب قبل أن ينشرها . وفى يوم سأل كامل الشناوى أحمد شوقى لماذا يقرأ قصائده اولا لعبد الوهاب وهو ليس شاعراً ولا ناقداً أدبياً فأجابه شوقى: لأنه يمثل الأغلبية.
???
ابتداء من سنة 1924 ذاعت شهرة عبد الوهاب وأصبحت له ألقاب كثيرة ترددها الجماهير وتنشرها الصحف .. فأطلقوا عليه اسم « البلبل» و «مطرب الملوك والأمراء» وأخيراً اتفق الجميع على تسميته «الموسيقار الكبير» وبعدها صار لقبه «موسيقار الأجيال» ولكن كان لشوقى خصوم يهاجمونه ويهاجمون شعره، وكان أشدهم تعصباً ضده وهجوماً عليه عباس العقاد وإبراهيم عبد القادر المازنى وأصدر كتاباً مشهوراً بعنوان « الديوان» كله نقد لاذع لشوقى ونال عبد الوهاب نصيبا من هذه الخصومة فقد هاجمه خصوم شوقى بدون سبب إلا
لإعجاب شوقى به، فقالوا إنه غراب يسمونه «بلبل»، وكان المازنى يقول إن عبد الوهاب لايصلح الا ليكون مريضاً يئن وينازع، والغريب أن العقاد كان يهاجم عبد الوهاب دون أن يستمع إليه نكاية فى شوقى ، فلما استمع اليه ـ لأول مرة ـ أبدى إعجابه به وقال بصراحته المعهودة إنه لا عيب فيه إلا إعجاب شوقى به ، والأغرب من ذلك أن المازنى وافق العقاد على هذا الرأى، ونشر العقاد قصيدة فى جريدة « البلاغ» قال فيها:
إيه عبد الوهاب : إنك شاد
يطرب السمع والحجى والفؤاد
قد سمعناك ليلة فعلمنا
كيف يهوى المحبون السهاد
وكتب المازنى مقالاً قال فيه « من أمتع ما مر بى فى هذه الحياة ليلة قضيتها فى سماع صوت شجى ومازلت كلما خلوت إلى نفسى أغمض عينى وأستمع وأحاول أن أبتعث ذلك الصوت البديع الذى هاجنىإلى ما بى وكأنى لم أسمع بل أسقى من رحيق الجنات : وكأنه لم يكن غناء مصوغاًمن شجى القلوب بل من شعاع العقول .. هكذا أمتعنا عبد الوهاب بصوته فى ليلة كانت كلها سحرا ردنى بعدها عن كل نغمه سواه ، وأتصوره دائما هوى سابحا وروحا هائمة وصوتاً صافياً.
هكذا تحول الخصوم إلى معجبين ، وكانت كلمات العقاد وشوقى شهادة ميلاد رفعت عبدالوهاب درجات فوق الدرجات التى كان قد صعد عليها، وكانت درساً لكل صاحب موهبة أن يؤمن بأن العثرات التى تعوق طريقه تزول فى النهاية بقوة عزيمته وإصراره على تنمية موهبته.
ولأول مرة يفتح عبد الوهاب قلبه لصحفى فقد اجرى معه كامل الشناوى حديثا صحفياً وكان هذا الحديث أول عمل صحفى له . قال فيه عبد الوهاب عن نفسه إنه ظهرعلى المسارح وهو طفل صغير ، وكان ابوه يبعده لكى يخلفه فى مسجد سيدى الشعرانى هو وأخاه الشيخ حسن. وحفظ أخوه القرآن كله أما عبد الوهاب فقد حفظ منه اجزاء فقط وهرب من الكتاب و أخذ يتلمس اى عمل يكسب منه قرشاً واحداً فى اليوم فكان يذهب إلى الأفراح ليستمع إلى المطربين الكبار مثل صالح عبد الحى ويعود متأخراً بالليل فيؤتيه والده فى الصباح ويقسم بأغلظ الإيمان بأنه لن ينفع فى شئ (!) وبعد وفاة والده تولى شقيقه تأديبه بالضرب عقب كل سهرة يقضيها خارج البيت. ولكنه كان يذهب ليستمع إلى الغناء ويحفظ الأغانى التى يسمعها ويرددها فى الحارة مع أصحابه إلى أن سمعه الأسطى عبده الحلو الحلاق فقال له إن صوته جميل وسيقدمه إلى زبون يحلق عنده هو الأستاذ فوزى الجزايرلى صاحب الفرقة المسرحية التى تمثل على مسرح الكلوب المصرى فى حى الحسين. وهكذا عمل فى فرقة الجزايرلى مطرباً يغنى بين فصول الروايات مقابل خمسة قروش فى الليلة، وكان ثمن تذكرة الدخول فى المسرح خمسه قروش للبريمو وقرشين للترسو.. بعد ذلك التحق عبد الوهاب بفرقة عبد الرحمن رشدى ليغنى بين الفصول وارتفع أجره إلى عشرين قرشاً فى الليلة، ثم كانت ضربة القدر حيث تعرف على « الباشا» أى أمير الشعراء أحمد شوقى الذى أدمجه فى وسط أساطير الموسيقى الشرقية وخصص له مدرسا يمرنه على التحدث باللغة الفرنسية حتىيستطيع أن يتفاهم مع أبناء الطبقة الراقية وكانت اللغه الفرنسية هى لغة هذه الطبقة.
قال عبد الوهاب فى أول حديث مع كامل الشناوى إنه يحب الموسيقى العالمية وموسيقى المشايخ ولا تناقض فى ذلك لأن الموسيقى العالمية تنبع من طبيعه مؤلفيهاً ، وموسقى المشايخ عندنا هى الموسيقى الوحيدة التى تنبع من طبيعتنا .. ومن المشايخ الذين كان يقصدهم عبده الحامولى الذى كان طالباً فى الجامع الأحمدى بطنطا وكان شيخاً وقدم ألواناً جديدة من الموسيقى، وسلامة حجازى كان أيضاً طالباً فى المعهد الدينى بالإسكندرية واستطاع خلال عمره القصير أن يصنع الموسيقى المصرية الحديثة وأن يعبر عن نبض فئات الشعب المختلفة ، والشيخ حامد مرسى كان المطرب المسرحى الأول، وقال عبدالوهاب إنى مفتون بالشيخ على محمود فى التواشيح والقصائد ، وبالشيخ محمد رفعت وهو يرتل آيات الله.
???
بلغ عبد الوهاب ذروة الشهرة فى عام 1935 وأصبحت أغانيه تتردد فى القرى والمدن وفى كل البلاد العربية وكان عبد الوهاب يطوف بالقرى والأحياء والمسارح والموالد والأفراح ويقوم برحلات إلى العراق وسوريا وفلسطين ولبنان وتونس وغيرها ، وما اكثر الذين تعصبوا له فى تلك البلاد، وفى هذه السنة بدأ يطرق باباً جديدا من أبواب الثروة و الفن معاً هو باب السينما بعد أن كان متردداً لخوفه من الفشل واعتقاده أنه ليس موهوبا فى التمثيل إلى أن اقتنع بأن السينما صناعة يمكن ممارستها بالتعليم فقط ، فبدأ مع المخرج المشهور محمد كريم ليعلمه ويدربه، وحقق اول أفلامه أرباحا طائلة وتوالت أفلامه بعد ذلك ، وارتفعت مؤشرات النجاح والثروة.
كان عبد الوهاب مولعاً بالحياة ويخاف من الموت، ويخاف من المرض ، ويخاف من الحسد، ومع ذلك تعرض لمحاولة اغتيال فى وضح النهار حيث هاجمه شخص مجهول بسكين وجاءت الطعنة فى جبهته وقال الجانى فى التحقيقات إن عبد الوهاب سرق ألحانه واتضح أنه مجنون ودخل فعلاً مستشفى الأمراض العقلية.
كانت أمنيته أن تغنى أم كلثوم من ألحانه، وكان رأيه أنها «تمثل العظمة والزعامة».
كان عبد الوهاب يؤمن بأن معادلة النجاح هى العمل والإخلاص فى العمل.
لم أجد من أحد أصدق وأدق فى التعبير عن عبد الوهاب أكثر من الشاعر والكاتب والصحفى أستاذنا كامل الشناوى.. ولم أجد أبلغ من عبارته التى تحدث بها عن عبد الوهاب فقال:«رجل مات قبل أن يعيش، ورجل عاش بعد «ما مات» عبد الوهاب هو الرجل الذى عاش بعد «ما مات»!

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف