عندما اعلن الرئيس مبارك عن استراتيجية جديدة لتحديث مصر تحركت اجهزة التنفيذ قبل ان تقوم اجهزة التفكير والتخطيط بدورها في بلورة الفلسفة والمفاهيم التي ستقوم عليها هذه الاستراتيجية لبناء المستقبل.
ولذلك بدأ يسود فهم لهذه الدعوة بأنها تعني تحديث الصناعة, بتحديث الالات ونقل التكنولوجيا الحديثة ومسايرة العصر في استخدامات الكمبيوتر ونظم المعلومات, وان كان هذا صحيحا ومطلوبا,ولكنه لا يمثل الا جانبا واحدا من هذه الاستراتيجية التي تعني التغيرالشامل ليس للصناعة وحدها, ولكن للزراعة, والتعليم, والبحث, ونظم الادارة, والقوانين المنظمة لمسيرة الحياة ومعظمها ينتمي الي عصور مضت ويعبر عن توجهات لم تعد قائمة الآن, ويفرض من الاوامر والنواهي مالم يعد يلائم هذا العصر.. وباختصار فان تحديث مصر مشروع يتضمن تجديد كل جوانب المجتمع المصري لكي تصبح في مستوي العصر بما وصل اليه من انجازات وتقدم مادي, وحضاري, وثقافي, وسياسي, لان نظرية الاواني المستطرقة تنطبق علي المجتمع, واذا لم تؤخذ في الاعتبار يمكن ان يحدث خلل اجتماعي لا تحمد عواقبه, بمعني انه ليس من الصالح العام ان يتحقق النمو المادي, الاقتصادي والعمراني والصناعي, دون ان يتحقق نمو مواز ومساو في الثقافة العامة والقيم الاجتماعية والاخلاقية والمفاهيم الدينية السائدة, والا فسنكون امام كائن غير متكامل وغير متوازن اشبه بإنسان وصل الي درجة عالية من النمو الجسماني والعضلي ولم يصل الي درجة تناسبها من النمو العقلي والمعرفي والسلوكي, مثل هذا الانسان من الممكن ان يتحول الي خطر علي نفسه وعلي غيره, ولذلك يتمسك علماء التربية بالدعوة الي التكامل في بناء الانسان جسميا ونفسيا وعقليا ووجدانيا.. وهكذا.
كذلك فان عملية تنمية المجتمع تستلزم هذا التكامل والتوازن بين الجانب المادي والجانب الانساني.
واذاكانت الظروف الاقتصادية والاثار المترتبة عليها تفرض علي الحكومة ان تركز علي الاصلاح والتنمية في الاقتصاد اولا, فان هذا يجب الا يكون مبررا لاغفال جوانب التنمية الاخري واذا كان الاهتمام شديدا بما يقال عن حساسية رأس المال واتجاهه الي الهروب في اوقات الازمة, فان ذلك يجب الا ينسينا اهمية القيم, وأولاها قيم العمل واتجاهها هي الاخري الي الاختفاء عندما تشتد الضغوط من تيارات التخلف.. ويتم العمل التي لايتحقق التحديث بدونها هي قيمة الزمن بما تعنيه من حفز العاملين علي عدم ضياع الوقت, وعدم تأجيل عمل اليوم الي الغد, وعدم اضاعة وقت العمل بغير العمل, وعدم اضاعة اوقات اصحاب المصالح لمجرد كسل الموظفين وعدم شعورهم بأن الوقت له عائد مادي واجتماعي ومعنوي.. كذلك فان غياب قيمة الثواب والعقاب تجعل عملية التقدم والتحديث شبه مستحيلة, مادامت نظم العمل القائمة تسوي بين الذين يعملون والذين لا يعملون في الاجر والعلاوة والحوافز والمكافآت, ومادامت هناك منظمات ونقابات تعمل علي التهوين من اخطاء المخطئين وتطالب بالسكوت علي انحراف المنحرفين.. وتقف الي صف الكسالي والمهملين في العمل, وتطالب بمساواتهم في المكافات ورفع العقوبات عنهم.. هذه الروح هي التي تقف حجر عثرة امام عملية التحديث في كل المجالات, ولو نظرنا الي الدول المتقدمة فسنجد ان سر التقدم هو ان الجميع يعترفون ويتقبلون مبدأ الثواب والعقاب علي انه امر طبيعي ومفروغ منه, حتي ان كل مخطئ يتقبل الجزاء دون اعتراض, كما يتقبل الجميع مكافآة المجتهدين وتخطيهن لزملائهم في الترقية علي ان ذلك امر طبيعي, خاصة ان هذا التخطي لا يتم بالمحسوبية او الوساطة او لأسباب شخصية ولكنه يتم وفقا لمعايير موضوعية دقيقة لا تسمح بالانحراف او التحايل..
اما القيمة الثالثة التي لا يمكن ان يتم التحديث بدونها فهي قيمة الإتقان والتجويد, والفارق بين العامل في بلد متقدم وزميله في بلد متخلف هو الاتقان هناك وعدم الاتقان هنا, ويترتب علي ذلك الفارق بين منتجات جيدة مطابقة للمواصفات دون اي عيوب ولها سمعة في الاسواق, ومنتجات علي العكس من ذلك, وهكذا فإن قيم العمل تعني ان يسود في المجتمع في عمومة, وفي وجدان وضمير كل فرد فيه عادات احترام العمل, والإتقان في العمل, والحساب علي العمل صوابا او خطأ او اهمالا او انحرافا..
لكي يتحقق تحديث مصر لابد من القضاء علي الانفصال القائم بين الفكر والفعل.. بين البحث العلمي والتنفيذ.. بين جماعات المثقفين وجماعات المنفذين في الحكومة وغيرها.. ولابد ان نواجه وبحسم السلبيات القائمة في المجتمع, فالكل يعرفون هذه السلبيات, ويشكون منها, ولكن الكل يتقبلون هذه السلبيات ويتعاملون مع الاخطاء والانحرافات وكأنها قدر مقدور لا مهرب منه ولامفر, ويتعايشون معها بالصمت او بالتجاهل او بتأجيل الحساب والاصلاح, وما اكثر السلبيات التي اصبحت تعوق التقدم والانطلاق, ومع تراكمها تصبح سدودا تمنع السير الي الامام وتفرض الجمود او التراجع الي الوراء...
هذه بعض مقدمات تحتاج الي نظر وتفكير, واذا استطعنا ان نحولها الي حقائق جديدة في الواقع, فاننا نكون قد بدأنا بالفعل السير علي الطريق الصحيح لتحديث حياتنا ومجتمعنا بالمعني الكامل الشامل.