حوار حول تحديث مصر

عندما أعلن الرئيس مبارك مشروعه القومي الكبير عن تحديث مصر كان المفروض أن تتحرك الجامعات‏,‏ ومراكز البحث العلمي‏,‏ وأجهزة الإعلام خاصة التليفزيون‏,‏ وجماعات المثقفين لإدارة حوار قومي واسع يشارك كل صاحب رأي برأيه‏,‏ بحيث تتبلور في النهاية رؤية موحدة وشاملة لهذا المشروع الطموح‏,‏ ويتكون حوله رأي عام يساند ويدعم ويراقب التنفيذ‏.‏

ولكن لم يتحرك حتي الآن إلا مجلس الوزراء‏,‏ فقد أعد الخطوط العريضة لسياسات التحديث ودور كل وزارة ومسئوليتها‏,‏ أما مراكز التفكير والبحث العلمي فلم يتحرك الا معهد التخطيط القومي‏,‏ فقد نظم سلسلة ندوات شارك فيها نخبة من العلماء في محاولة لوضع اطار لتحديث الاقتصاد والمجتمع في مصر‏,‏ وقد شارك في هذه الندوات الدكتور أسامة الباز‏,‏ والاستاذ سيد يسين‏,‏ والدكتورة هبة ؟‏,‏ والدكتور حازم الببلاوي‏,‏ والدكتور اسماعيل الرملي‏,‏ والدكتور عثمان محمد عثمان‏,‏ والدكتور رأفت رضوان‏,‏ وتمثل حصيلة هذه الندوات حصيلة جيدة يمكن أن تكون البداية للعمل السياسي والشعبي الواسع الذي يجب أن يقوم به الحزب الوطني باعتباره حزب الأغلبية‏,‏ وباعتبار أن مشروع تحديث مصر هو مشروع القيادة السياسية والحزب والحكومة‏,‏ ولايمكن ان يخرج إلي حيز التنفيذ بصورة كاملة الا اذا وجد مساندة شعبية‏,‏ وتفهما وتأييدا من جميع الاحزاب ــ وليس الحزب الوطني وحده ــ باعتباره المشروع الوطني الذي لايمكن ان تختلف عليه الاحزاب من حيث الفكرة والمبدأ والأهداف مهما تعددت مواقفها‏,‏ وان كان مشروعا بالقطع أن تتعدد الاجتهادات وتختلف وجهات النظر في الاساليب والوسائل لتنفيذه‏.‏


ومشروع تحديث مصر مشروع كبير هو حلم قومي يمكن تنفيذه للنهوض بمصر نهضة شاملة بحيث يتم القضاء علي آثار مراحل التخلف السابقة‏,‏ وتدخل مصر في نادي الدول المتقدمة‏,‏ وتشارك في التفاعل مع العصر وما فيه من تقدم هائل في العلوم والصناعة والتكنولوجيا‏,‏ وتحقق الهدف القديم الذي لم يتحقق وهو بناء الانسان المصري بمقاييس ومتطلبات القرن الحادي والعشرين‏.‏

والبداية الطبيعية لهذا المشروع القومي الكبير أن نجيب علي اسئلة مبدئية وضرورية قبل التفكير والعمل‏..‏ أسئلة مثل‏:‏ من نحن‏,‏ وماذا نريد‏..‏؟ هل نريد أن نكون جزءا من الحضارة الاوروبية الأمريكية أم نريد أن تكون لنا شخصية حضارية متميزة‏..‏ وماهي هذه الشخصية المتميزة وماهي حدود الاتفاق والاختلاف عن الشخصية الحضارية الغربية‏..‏؟ هل نريد أن ندخل عصر الصناعة الذي دخلته أوروبا منذ أكثر من قرن‏..‏ أم عصر الالكترونات والكمبيوتر والذكاء الاصطناعي‏..‏؟ وهل ثقافة مجتمعنا الحالية ثقافة تحفز المصريين للتقدم والسير إلي الأمام أم هي ثقافة تدعو إلي الاستسلام للواقع والاكتفاء بما تحقق من أمجاد الماضي‏..‏؟ هل نحن في عصر الاصلاح الديني؟ هل نحن في عصر النهضة والثورة الفرنسية؟ في أي مرحلة من مراحل التاريخ نعيش‏,‏ حتي تتضح الحلول بالنسبة للمفكرين‏,‏ ويبدو للناس دورهم وهذه الاسئلة بدأ بها الأستاذ سيد سين الحوار نقلا عن مفكر ايراني اصلاحي هو الدكتور علي شريعتي وأضاف إليها رأيه بأن التحديث مرحلة تاريخية فات أوانها كانت مرتبطة بعصر الصناعة‏,‏ وكانت تعني انتقال مجتمع تقليدي إلي مجتمع صناعي مع مايترتب علي ذلك من تغيرات في البنية الاجتماعية

والثقافية‏,‏ وقد أنتهي عصر التحديث والعالم منشغل الآن بمرحلة مابعد التحديث‏,‏ التي تعني الانتقال إلي مجتمع المعلومات العالمي‏.‏

وعلي ذلك يدعونا الاستاذ سيد يسين إلي تغيير الهدف‏,‏ ليصبح هدفنا هو نقل مصر إلي مرحلة مابعد التحديث ومابعد المجتمع الصناعي‏,‏ ويضعنا أمام المأزق الذي ينتظرنا مع غيرنا من الدول النامية في ظل اتفاقيات التجارة الحرة التي ستفتح الحدود وتطلق المنافسة بين جميع دول العالم‏,‏ ويقول إن ايديولوجيا العولمة التي قامت عليها فلسفة منظمة التجارة العالمية بمنطق البقاء للأصلح ستؤدي إلي انتصار الأقوياء وسحق المنافسين الصغار‏,‏ ولن تكون هناك ندية في المنافسة‏..‏ وهل تستطيع دولة نامية أن تنافس اليابان أو المانيا من الناحية التكنولوجية‏,‏ ولذلك فإن مصر تخوض معركة مع الدول الخمس عشر لتحقيق حد أدني من العدالة بين الدول المتقدمة والدول النامية‏..‏ وفي الوقت نفسه ينبهنا إلي اننا تربينا علي الثنائيات‏:‏ إما اشتراكية أو رأسمالية‏,‏ وإما قطاع عام أو قطاع خاص‏,‏ وإما الجوانب المادية أو المعنوية‏,‏ بينما قد يكون الطريق الصحيح هو التوفيق بين الثنائيات وهذا ما أدي إلي ظهور نظرية الطريق الثالث التي وضع إطارها النظري المفكر البريطاني انطوني جيدنز وتحولت إلي حركة سياسية يطبقها بلير في بريطانيا وشرودر في المانيا كما كان كلينتون يعمل بوحي منها في فترة حكمه‏,‏ وفيها توفيق بين الرأسمالية والعدالة الاجتماعية‏.‏


وهكذا يتبين لنا أن المسألة ليست مجرد شعار جميل نرفعه ونردده‏,‏ وليس دعوة للمسارعة إلي العمل ووضع البرامج بقدر ماهي دعوة للتفكير‏,‏ ليشارك كل أصحاب الفكر في كل المواقع‏,‏ من أجل تحديد الأهداف وبلورة نظرية‏,‏ أو فلسفة للعمل‏,‏ ووضع خريطة تبين صورة مصر كما نريدها‏,‏ وموقعها بين دول المنطقة ودول العالم‏,‏ ومواصفات الإنسان المصري القادر علي التفاعل والتعايش مع معطيات وحقائق الثورات العالمية الحالية‏:‏ ثورة التكنولوجيا وثورة المعلومات‏,‏ وثورة الاتصالات‏..‏ الخ‏..‏ واذا لم يكن المثقفون في الطليعة للتفكير والإعداد وقيادة عملية التحديث فمن غيرهم يقدر علي القيام بهذه المسئولية؟


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف